عشيّة الأحد الثّاني والعشرين من الزّمن العاديّ، يتأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل لوقا ١٤: ١–٧–١٤، بعد أن “رأينا الأحد الماضي ومن خلال مسيرة يسوع نحو القدس كيف تتكرّر الدّعوة لدخول الملكوت ونيل الخلاص. كما ورأينا أنّه ليس من السّهل نيل هذا الخلاص، لا لحاجته إلى شروط معيّنة، بل لأنّ الأمر يستدعي الدّخول من باب ضيّق لنيل خلاص لا يخضع لمنطق الاستحقاق بل يُعطى مجّانًا للجميع.”
ويشير بيتسابالا إلى أنّ “المقطع الإنجيليّ لهذا اليوم (لوقا ١٤: ١–٧–١٤) يسير في هذا الاتّجاه”، فيقول بحسب إعلام البطريركيّة الرّسميّ: “في الحقيقة، إنّه عبارة عن مثليْن قصيرين يتردّد فيهما صدى المنطق الإنجيليّ “المعكوس” بقوّة شديدة.
المثل الأوّل (لوقا ١٤: ٧– ١٠) غريب نوعًا ما، وتجري أحداثه خلال عرس ويطلب يسوع فيه من المدعوّين ألّا يجلسوا في المقعد الأوّل، كي لا يطلب أحد منهم إخلاء موضعهم والجلوس في المقعد الأخير.
إنّ أحداث هذا المثل قريبة من الواقع والحياة اليوميّة أكثر ممّا يبدو، ذلك لأنّها ليست ببساطة دعوة للتّواضع والخجل، كما وليست مقصورة فقط على حدث مميّز مثل الدّعوة إلى الغداء، بل هي دعوة للعيش بأسلوب صادق وحقيقيّ.
ذلك لأنّه أحيانًا ومن دون أن ندرك الأمر، نُمضي حياتنا في السّعي للجلوس في “المقعد الأوّل” ونملأ القلب بالجشع والرّغبة في التّملّك والمنافسة. نرغب في الظّهور بعكس ما نحن عليه لنترك بذلك انطباعًا حسنًا. نولي اهتمامًا لما يقوله الآخرون عنّا. بعبارة أخرى، نحاول تفادي المواقف السّلبيّة وكلّ ما يرهقنا ويمثّل محدوديّة لنا. يعاني قلبنا من هذه العلّة، ونسعى وراء أوهام تتمثّل في عدم حاجتنا إلى الآخرين وفي التّفكير بأنّنا أفضل منهم ونتمتّع بتقدير أو حبّ أكثر.
عادة ما تُقدّم الرّواية الكتابيّة أمثلة على هذه الدّيناميكيّة. المثال الأوّل هو آدم، الّذي يرفض طاعة الله كي يصبح مثله فيحلّ في الموضع الأوّل، إلّا أنّه يجد نفسه في الموضع الأخير يملؤه الخجل تمامًا مثل الضّيف في مثْل اليوم.
يجد آدم نفسه خارج الفردوس وبعيدًا عن تلك المنزلة وعن ذلك المكان الّذي وضعه فيه الرّبّ، لا لأنّ الله شرّير ويعاقب بل ببساطة، وكما يبدو وأنّ يسوع يقول لنا اليوم، لأنّ هذه الطّريقة في الحياة والمتمثّلة في الوصول إلى المراتب الأولى لا يمكنها الصّمود طويلاً على غرار البيت المبنيّ على تراب (لوقا ٦: ٤٩)، فهو ينهار فور تردّي أحوال الطّقس لافتقاره إلى الأساسات. في النّهاية، حين نكذب سنعيش حينها من دون أيّ شيء.
أمّا من يعرف مكانه المناسب ويعيش طاعة بنويّة للرّبّ بكلّ تواضع، فهو يستطيع سماع صوت الرّبّ يخاطبه ويدعوه “أخي” ويدعوه للجلوس بجانبه (لوقا ١٤: ١٠). إنّه يعرف الرّبّ ويتبنّى أسلوبه في الحبّ، والرّبّ الآنّ يعرفه.
عندما نقرأ مثْل الأحد الماضي (لوقا ١٣: ٢٢– ٣٠)، يمكننا القول إنّ الإنسان الّذي يعيش حقيقته وحقيقة كونه خليقة، أخاً بجانب إخوة آخرين، سيمرّ عبر الباب الضّيّق، وسيمْثل أمام السّيّد، ولن يسمع كلماته المريعة: “لا أعرف من أين أنتم” (لوقا ١٣: ٢٧)، بل سيدخل بيته مع يسوع.
المثْل الثّاني (لوقا ١٤: ١٢– ١٤) يأتي في سياق الدّعوة إلى وليمة.
ويبدو أنّ المثْل يمكن قراءته في ضوء الجزء الأوّل من المقطع الإنجيليّ. وهنا نتوقّف عند عنصرين.
العنصر الأوّل هو عندما يعيش الإنسان خبرة دعوة الرّبّ له بحرّيّة ويختبر حبّه له من دون شروط. وعليه، هذا الإنسان مدعوّ للقيام بالشّيء ذاته في تبنّيه أسلوب حياة يتّصف بالحرّيّة والطّيبة ولا يسعى إلى تحقيق مصالحه الشّخصيّة، وأن يعيش في شراكة مع الجميع من دون مقابل سوى ما يقدّمه فرح الحبّ.
أمّا العنصر الثّاني فهو إن قبلك شخص من دون شروط ولم يتركك في الخارج، فستتعلّم أن يكون لديك تعاطف نحو الآخرين ولن تترك أحدًا خارجًا من دون استقبال أو ملجأ.
للختام، يحتوي سياق هذه الأمثلة على دلالة: “ودخل يوم السّبت بيت أحد رؤساء الفرّيسيّين ليتناول الطّعام، وكانوا يراقبونه” (لوقا ١٤: ١).
إنّنا إذًا في بيت أحد الفرّيسيّين وكلّ ما قاله يسوع كان موجّهًا لهم.
ذلك لأنّ الباب الضّيّق الّذي يجب أن نعبر من خلاله للدّخول إلى الملكوت، هو ضيّق في المقام الأوّل لمن يعتبرون أنفسهم أبرارًا، ويعتقدون أنّهم يستحقّون الموضع الأوّل، حتّى في مجال الإيمان وعلاقتهم مع الله.
في سياق مشابه، سيسرد يسوع أمثلة لها نفس الطّابع سنسمعها في الأحدين القادمين. وهي عبارة عن أمثلة معروفة وتثير الجدل، ستدفع رحمة الآب إلى إقامة وليمة لابنه الّذي انتهى به الأمر إلى أماكن نائية من الإنحطاط ليتمّ بعد ذلك إعادة استقباله بإقامة وليمة كبيرة”.