ضمن احتفالات الكنيسة الأرثوذكسية بعيد رقاد السيدة العذراء وانتقالها بالجسد إلى السماء . ترأس صاحب السيدة المطران فينذكتوس الصلاة الاحتفالية في مدينة بيت لحم وسط حضور عدد كبير من المؤمنين.
وبهذه المناسبة نورد هنا التفاصيل التقليدية واللاهوتية الخاصة بالعيد.
جميع الأجيالِ تغبطكِ يا والدةَ الإلهِ وحدها، أيتها البتولُ الطاهرةْ إن حدودَ الطبيعةْ قد غُلبت فيكِ، لأنَ المولدَ بتولي والموتَ قد صارَ عربوناً للحياةْ، فيا من هي بعدَ الولادةِ بتولْ وبعدَ الموتِ حيةْ، يا والدةَ الإلهْ أنتِ تُخلصينَ ميراثكِ دائماً.
تُكرم الكنيسة الأرثوذكسية في العالم بشكلٍ خاص والدة الإله، ويعود جذور هذا التكريم إلى تاريخ الكنيسة الأولى وعصر الرسل إذ يكفي قولها الذي سجله الكتاب المقدس “فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي” (لو48:1). وعبارة (جميع الأجيال) تعني أن تطويب السيدة العذراء مريم سيبقى إلى آخر الزمان، ولعل من عبارات إكرام السيدة العذراء التي سجلها الكتاب المقدس أيضاً قول القديسة اليصابات لها “فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي” (لو44:1).
السيدة العذراء لم تنل الإكرام فقط من البشر، وإنما أيضاً من الملائكة. وهذا واضح في قول رئيس الملائكة جبرائيل لها “سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ” (لو28:1). وعبارة (مباركة أنت في النساء) تكررت أيضاً في تحية القديسة أليصابات لها في(لو42:1)،ولهذا أيضاً نُكرم رقادها وإنتقالها إلى السماوات!
أما بشأن رقاد والدة الإله فإنها بالحقيقة ذاقت الموت، رقدت، وأُودعت القبر، لكن جسدها لم يعرف فساداً لأنّها إنتقلت إلى السماء، مع أن الكتاب المقدّس لا يُذكر شيئاً عن رقادها لكن يورد آباء الكنيسة في عظاتهم الكثير من آيات الكتاب المقدس التي تدل على رقاد السيدة العذراء وإنتقالها بالجسد.
● آيات الكتاب المقدس التي تدل على رقاد العذراء وإنتقالها بالجسد
• قول داوود النبي: “قُمْ يَا رَبُّ إِلَى رَاحَتِكَ، أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ” ( مز131 : 8 ) ،ومن تفاسير الآباء لهذه الآية هو بأن المسيح قد أَدخل إلى السماء الجسد الذي منه وُلد ولادة زمنية.
• قول داوود النبي: “قامت الملكة من عن يمينك بألبسة مزخرفة منسوجة بخيوط مذهبة” (مز44: 10 ) ،نرى في هذه الآية مريم العذراء موشاة بحلّة ملوكية قائمة على يمين السيّد، أيّ في السّماء.
• كذلك يُستشهد بآية من رؤيا يوحنا “وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا”(رؤ 12 :1).
الآيات التي ذُكرت هي رموز من الكتاب المقدّس تتناول موضوع رقاد والدة الإله وإنتقالها إلى السماء. أمّا أساس خبر رقاد العذراء فهو يأتينا من التقليد الشريف المقدس لكنيستنا الأرثوذكسية.
● أحداث رقاد السيدة العذراء بحسب تقليد الكنيسة المقدسة:
الرّب يسوع بواسطة رئيس الملائكة جبرائيل أخبر والدته برقادها قبل حدوثه بثلاثة أيام، وبشرها قائلاً: “هذا ما يقوله إبنك: إن الأيام التي سأُحضرك بها إليَّ قد قربت لأنك ستنتقلين بعد ثلاثة أيام إلى الحياة الخالدة”. هذا ملأها فرحاً لأنّها اشتهت أن تصعد إلى إبنها وإلهها، لذلك توجّهت إلى جبل الزيتون لتصلّي في سكون،كما كانت عادتها.
وقد ذُكر أنه قبل رقادها امتلأ بيتها غيماً سماوياً، أحضر الرسل من أطراف الأرض (إلا توما)،وإلى الرسل إنضم القدّيسون إيروثاوس أسقف أثينا وديونيسيوس الأريوباغي ،والرسول تيموثيموس والرسول بولس كان أيضاً حاضراً،وبحسب القدّيس يوحنا الدمشقي، حضر عدد من أنبياء العهد القديم. وقيل إن حنّة، أم والدة الإله، مع إليصابات وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود كانوا حاضرين.
رقدت والدة الإله بسلام واستقرّت، بين يديّ إبنها وإلهها، تمّ رقادها بلا ألم وبلا قلق. إمتزجت أصوات الملائكة بأصوات البشر إكراماً لرقادها. تنقّى الهواء بصعود نفسها وتقدّست الأرض بإقتبال جسدها. وقد نال الكثير من المرضى الشفاء.
لكن حسد بعض اليهود وحقدهم جرى التعبير عنه بإثارتهم قوماً للتعرّض للمحمل الذي سُجيت عليه والدة الإله. وتجاسر شخص اسمه يلفونياس على الإقتراب منه لكي يُسقط جسدها الطاهر على الأرض ولحظتها إنقطعت يداه “أنظر بتمعن أيقونة الرقاد”. لكنّه تاب وآمن واستعاد يديه بنعمة الله وصلوات الرسل.
جرى دفن والدة الإله في بستان الجثسمانية على أعتاب جبل الزيتون ، في وادي قدرون قرب أورشليم، هناك أقام الرسل مع الملائكة في الصلاة ثلاثة أيّام.
(ويذكر التقليد الشريف أنها أوصت بنفسها أن يُدفن جسدها الطاهر عند جبل الزيتون في بستان الجسمانية حيث دفن أبواها القديسين يواكيم وحنة وخطيبها القديس يوسف. ومن هنا نعرف لماذ تمَّ الدفن في الجسمانية).
●وصول توما إلى أورشليم بعد دفن والدة الأله:
توما الرسول، تدبيراً إلهياً، لم يحضر الجنازة ولم يُختطف كباقي الرسل من أرجاء المسكونة إلى أورشليم،بل وصل إلى الجثسمانية في اليوم الثالث وقد استبدّ به حزن عميق عندما أُخبر برقاد والدة الأله. كان يرغب في أن يلقي نظرة أخيرة عليها ليتبرّك منها ،وفي ذلك اليوم رأى السيدة العذراء تصعد إلى السماء بالجسد بموكب ملائكي عجيب، وطلب منها علامة يبرهن بها لإخوته التلاميذ عن صدق حديثه عندما يخبرهم عما شاهده، فأعطته زنارها، وبعدما اجتمع توما بالتلاميذ، وطلب إليهم فتح ضريح السيدة العذراء، ففعلوا ولم يجدوا الجثمان الطاهر، فأخبرهم بما رأى وعلامة على ذلك زنارها المقدس الذي كان بحوزته ،(أما اليوم جزء من هذا الزنار المقدس محفوظ في دير الفاتوبيذي في الجبل المقدس آثوس في اليونان،وهو ينبوع عجائب وبركة للمؤمنين).
قام كثيرون من الآباء بتثبيت رواية رقاد السيدة العذراء وإنتقالها إلى السماء في كتاباتهم وعظاتهم، ومن أبرزهم القدّيس مودستيوس الأورشليمي واندراوس الكريتي.
وفي أواخر القرن السادس أيضا ًكتب القدّيس غريغوريوس أسقف تور Tours كتابًا بعنوان “بمجد الشهداء” وقال فيه : “أن الرب رفع جسد البتول ونقلها بين السحب إلى السماء” .
وأيضا نجد عظات شهيرة تشهد لهذا العيد ألقاها القدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية والقدّيس يوحنا الدمشقي.
كما تكلّم عن هذا الحدث القدّيس يوحنا التسالونيكي في النصف الأول من القرن السابع،أمّا في القرون الأربعة الأولى فليس من شهادة تتكلم على رقاد العذراء سوى فقرة من كتاب الأسماء الإلهية Περί θείων ονομάτων المنسوب إلى القديس ديونيسيوس الأريوباجي.
كذلك أيضاً ذُكر حدث رقاد السيدة العذراء وإنتقالها إلى السماء بالجسد في تاريخ يوسابيوس القيصري ، أما سبب قلّة المعلومات ونقص الإهتمام بتفاصيل رقاد مريم العذراء وإنتقالها إلى السماء، وتأخّر ظهور العيد إلى القرن السادس وليس قبله، فهو يعود بسبب الإضطهادات التي عانت منها الكنيسة في القرون الأول، فلم تمارس كلّ طقوسها إلا بعد إنتهاء الإضطهادات الكبرى.
أحبائي، آمن المسيحيّون الأوائل وما زلنا نؤمن حتى اليوم أنّ السيدة مريم العذراء قد حصلت بعد موتها بثلاثة أيام على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الأزمنة،إن إصعاد الرّبّ يسوع المسيح والدة الإله مريم العذراء إلى السماء بعد رقادها، إنمّا هو تكريم مباشر للبشرية كلّها.
فجسد السيدة العذراء، قد استأهل هذه الكرامة والمجد المسبق، عربوناً وبرهاناً للقيامة التي ستحصل عليها أجسادنا جميعًا. الله تجسّد ليخلّص الإنسان ويضمّه إليه ويرفعه من الهلاك والفساد. وها هي السيدة العذراء شاهدةً على ذلك.
للسيدة العذراء في الكنيسة الأرثوذكسية مكانة رفيعة وفريدة ومميزة في الليتورجيا ولذا لها عدة أعياد تتعلق بها مباشرة: مثل عيد ميلادها ، عيد دخولها إلى الهيكل ، عيد دخول السيد الى الهيكل ، عيد بشارتها ، عيد رقادها ويضاف إلى هذه الأعياد الرئيسية عدد آخر من الأعياد المرتبطة بمريم العذراء مثلاً: ( عيد ينبوع الحياة وجميع الأعياد الخاصة بمعجزاتها وأيقوناتها العجائبية).
طروبارية رقاد السيدة “باللحن الآول”
في ميلادك حفظت البتولية وصنتها، وفي رقادك ما أهملت العالم وتركته يا والدة الإله، لأنك انتقلت إلى الحياة بما أنك أم الحياة. فبشفاعاتك أنقذي من الموت نفوسنا.
قنداق رقاد السيدة “باللحن الثاني”
إنّ والدة الإله التي لا تغفل في الشفاعات، والرجاء غير المردود في النجدات، لم يضبطها قبر ولا موت لكن بما أنها أم الحياة نقلها إلى الحياة الذي حلّ في مستودعها الدائم البتولية.
فبشفاعاتها خلصنا يارب وارحم عالمك أجمع ..آمين