انطلقتُ للعمل مع إحدى الإرساليَّات إلى بلد من البلدان الأفريقيَّة أطفال عراة بالكامل، يسيرون حفاة الأرجل، لا يكترثون لعوامل الطبيعة، من شمس أو شتاء، من حرّ أو برد. فهم دومًا فرحون، يلعبون ألعابًا بدائيَّة.
انطلق فريق الأطبَّاء يفحصون الكبار، واحدًا واحدًا، دون استثناء، ويصفون الأدوية للمصابين بأمراض مزمنة أو آنيَّة. بينما قسم من الشبَّان راح يتفقَّد المنطقة، وقسم آخر جمَّع الأطفال ليلهو معهم.
بعد أسبوع من النشاط مع الكبار والصغار، استطعنا أن نجمع عددًا كبيرًا منهم مساءً في ساحة دعوناها “مُصلَّى”، حيث نرفع الصلاة إلى الله، كلٌّ بحسب طريقته الخاصَّة. كان الأولاد يرقصون ويهلِّلون فرحين ويصفِّقون بأيديهم. بينما الكبار يتحلَّقون ويرفعون الصلوات من خلال رقصات فولكلوريَّة يقدِّمونها تسبيحًا لله. بينما فريق الرسالة يرنِّمون الترانيم الروحيَّة على أنغام الموسيقى فيخلقون جوًّا من التقوى والخشوع، ثمَّ يختمون الصلاة بترانيم حماسيَّة، يبتكر معها أبناء البلد رقصات عفويَّة تعبِّر عن سعادتهم بتلك الصلاة، فتتعالى ضحكاتهم ويعودون إلى أكواخهم فرحين مسرورين.
وكان الجميعُ ينتظرون المساء ليجتمعوا ويصلُّوا معًا. وفي أيَّام التعب والعمل الحثيث، يأتي الأفريقيُّون إلى فريق الرسالة ويسألونهم: ألن نجتمع اليوم “حيث يضحك الله”؟…
عدنا إلى ديارنا بعد مضيِّ شهرين من العمل الإرساليّ، ونحنُ نحمل في جعبتنا الكثير من الأخبار والروايات، من الذكريات المضحكة والمحزنة. فمن الذكريات المحزنة أنَّ الكثيرين منهم يلقوا حتفهم بسبب مرض الملاريا، بينما آخرون شوَّهتهم الأمراض التي لم تلقَ سابقًا أيَّ علاج، سوى العلاج الطبيعيّ بالأعشاب البرّيَّة. ومن الذكريات المضحكة هو قيام الأغلبيَّة بحركات بهلوانيَّة متسلِّقين الأشجار على مثال القردة، مقلِّدين تلك الحيوانات الأليفة، والتقليد هو تسليتهم الأكبر… حملنا إلى الأطفال الكثير من الثياب، كانوا يلبسونها يومًا ويرمون بها خارجًا في اليوم التالي بعدما تكون اتَّسخت بالكامل. أمّا الألعاب فراحوا يتقاسمونها بالتساوي. كلَّ يوم يأخذ واحد منهم لعبة يعيدها عند المساء ليأخذ غيرها في اليوم التالي…
أمّا اليوم فلم يبقَ في الذاكرة إلاَّ القليل، وما زالت تلك الجملة تدور في ذهني وتجعلني أبتسم: “حيث يضحك الله”. كم أحببتُ هذا التعبير للدلالة إلى معابدنا ودور الصلاة! كلَّ مرَّة نرفع الصلاة إلى الله نجعله يبتسم، بل بالأحرى نجعله يضحك. فلا نجعلنَّ من الصلاة فرضًا يكبِّلنا، بل في كلِّ مرَّة نقوم إلى الصلاة لنتذكَّر أنَّ صلاتنا تجعل الله يضحك، فتتحوَّل صلواتنا إلى لقاء سعيد بالله الذي ينتظرنا لا ليسمع شكوانا وهمومنا ومتاعبنا واحتياجاتنا فقط، وهو الذي يعرف كلَّ شيء عنَّا وما نحتاج إليه حتَّى قبل أن نسأله، بل لنؤكِّد له أنَّنا نؤمن ونثق به ونحبُّه من كلِّ قلوبنا، ونشكر له كلَّ عطاياه التي يفيضها علينا بغزارة، ونجعله أخيرًا يضحك. هلاَّ حوَّلنا من الآن وصاعدًا كنائسنا ومساجدنا ودور العبادة كلَّها إلى أمكنة “حيث يضحك الله”!