في الأحد الثّلاثين من الزّمن العاديّ، تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل لوقا ١٨: ٩– ١٤، أكّد على ضوئه أنّ الأهمّ ليس فقط القيام بأعمال صالحة، “بل الأهمّ أن نكون تحت نظرة الرّبّ الّتي تغيّر القلب ثمّ الحياة”.
وفي هذا السّياق، قال البطريرك بيتسابالا : “كي ندخل في نصّ إنجيل اليوم (لوقا ١٨: ٩– ١٤) نبدأ بتفصيل صغير نقرأه في الآية ١٣. في سرده لمَثل الفرّيسيّ والعشّار، يقول يسوع إنّ العشّار “لا يُريدُ ولا أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كان يَقرَعُ صَدرَهُ…”.
إنّ حركة قرع الصّدر تتكرّر مرّتين في إنجيل لوقا، في الفصل الثّالث والعشرين وأثناء أحداث آلام المسيح.
في المرّة الأولى على طريقه إلى الجلجلة (لوقا ٢٣: ٢٧) عندما تبعه جمع كثير من الشّعب ومن نساء كنّ يضربن الصّدور وينحن عليه.
في الواقع يتكلّم يسوع معهنّ ويطلب منهنّ عدم البكاء عليه. أمّا المرّة الثّانية الّتي يردّ فيها ذكر هذه الحركة فتجري بعد موت يسوع. بعد أن رأى قائد المئة كيف لفظ يسوع الرّوح، مجّد الله وأدرك أنّه رجل بار (لوقا ٢٣: ٤٧)، “وكذلِكَ الجَماهيرُ الّتي احتَشَدَت، لِتَرى ذلكَ المَشهَد فعايَنَت ما حَدَث، رَجَعَت جَميعًا وهي تَقَرعُ الصُّدور” (لوقا ٢٣: ٤٨).
بعد رؤيتها لموت يسوع وبعد أن بكت عليه، تبكي الجماهير على نفسها. وفي قرعها لصدرها لم تعد تدرك معاناة ذلك الّذي صعد وصُلب على الجلجلة وحسب، بل معاناتها وخطيئتها.
في إنجيل اليوم، أرى أهمّيّة هذه الحركة لفهم ماهيّة الصّلاة.
رأينا في الأحد الماضي أهمّيّة الصّلاة باستمرار وبإصرار. ولكن ما هي الصّلاة؟
يمكننا استخلاص بعض الأمور من مَثَل اليوم وأحداث الجلجلة.
الأمر الأوّل يتعلّق بالرّؤية.
نرى في مَثَل اليوم شخصيّتين رئيسيّتين تصعدان إلى الهيكل للصّلاة ولديهما نظرتان مختلفتان.
ينظر الفرّيسيّ إلى نفسه (لوقا ١٨: ١١– ١٢)، ويعدّد بثقة جميع حسناته وواجباته الدّينيّة. بقيامه بذلك يبقى منغلقًا على ذاته. ينظر إلى نفسه ويُعجب كثيرًا بما يرى، وعليه لا يحتاج إلى أيّ شيء آخر، ويشعر بأنّه يحقّ له النّظر إلى الجميع باحتقار.
أمّا العشّار فينظر بطريقة مختلفة. لا يجرؤ على النّظر إلى الأعلى نحو الله ويرى حقيقة كونه خاطئًا ويقرع صدره.
يمكننا القول إنّ الجماهير الواقفة على الجلجلة تشعر بنظرة هذا الرّجل البريء إليها، هذا الرّجل الّذي يمنح الحياة وعندها فقط تدرك خطيئتها.
هذه هي الصّلاة المسيحيّة: ليست أوّلاً ما يراه الإنسان بل أن يكون في مرأى ذاك الشّخص الصّالح يبذل نفسه من أجلنا. إنّها شهادة على أنّه يبذل نفسه من أجل خطايانا وفي تلك اللّحظة نشعر بندم نُعبّر عنه بحركة قرع الصّدر.
العشّار في المَثَل هو من يقوم بذلك ويُصلّي وليس الفرّيسيّ.
أمّا الأمر الثّاني فيرتبط بالفرّيسيّ. نستطيع الاستعانة هنا أيضًا بنصّ إنجيل القدّيس متّى (٧: ٢٢– ٢٣)، حيث كان يسوع يتحدّث عن نهاية الأزمنة ويقول: “سَوفَ يقولُ لي كثيرٌ من النّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أما بِاسمِكَ تَنبّأنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشّياطين؟ وبِاسمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ فَأقولُ لَهم عَلانِيّةً: “ما عرَفْتُكُم قَطّ. إليْكُم عَنِّي أيُّها الأَثَمَة!”.
كثيرون من النّاس يعتقدون أنّهم قاموا بأعمال صالحة للرّبّ، على غرار الفرّيسيّ في المَثَل. إلّا أنّ هذه الأعمال الصّالحة لم يرها يسوع ولا يعرف عنها.
الأهمّ ليس فقط القيام بأعمال صالحة، بل الاعتراف بما قام به من أجلنا على الصّليب والتّأمّل بفرح في عمل المحبّة الّذي به أحبّنا. الأهمّ أن نكون تحت نظرة الرّبّ الّتي تغيّر القلب ثمّ الحياة. عندها نتوقّف عن النّظر إلى أنفسنا كشخصيّات مغرورة بذاتها بل سنعتبر أنفسنا أشخاصًا وضعاء يعلنون رحمة الله مثل العشّار في إنجيل اليوم والسّامريّ قبل أحدين (لوقا ١٧: ١١– ١٩).”