ترحيب رسمي بالبابا فرنسيس في القصر الملكي في البحرين وكلمة قداسته إلى ممثلي السلطات والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي

وجه قداسة البابا فرنسيس، في أول حدث رسمي لزيارته الرسولية إلى مملكة البحرين، كلمة إلى ممثلي السلطات والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، وذلك بعد ترحيب جلالة الملك بقداسته.


في الثانية و٣٦ دقيقة من بعد ظهر اليوم الخميس ٣ تشرين الثاني نوفمبر بتوقيت روما هبطت في مطار قاعدة الصخير الجوية في عوالي الطائرة التي حملت قداسة البابا فرنسيس إل مملكة البحرين في أول زيارة لحبر أعظم إلى هذا البلد، لتبدأ هكذا الزيارة الرسولية الـ 39 للأب الأقدس. وعقب الترحيب بقداسته والوفد المرافق له نُظم ترحيب رسمي في قصر الصخير الملكي بمشاركة جلالة الملك حمد بن عيس آل خليفة والذي وجه كلمة ترحيب بالأب الأقدس توقف فيها عند ما يقوم به البابا فرنسيس من دور من أجل السلام العالمي والأخوّة والتعايش.

وإلى المشاركين، ما بين ممثلي السلطات والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي والقادة الدينيين، في هذا الترحيب واللقاء الأول الذي يتضمنه برنامج زيارة الأب الأقدس الرسولية إلى مملكة البحرين، والتي سيشارك خلالها في اختتام منتدى البحرين للحوار بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني، تحدث البابا فرنسيس محييا في البداية الجميع ومعربا عن شكره لجلالة الملك “على دعوته الكريمة لزيارة مملكة البحرين، وعلى ترحيبه الحارّ، وكلمات المودّة التي وجّهها إليّ”. وتابع” “أحيّي بحرارة كلّ واحد منكم. وأودّ أن أوجّه فكرة مودة ومحبّة إلى الذين يعيشون في هذا البلد: إلى كلّ مؤمن، وكلّ فرد، وكلّ عائلة، العائلة التي يعرّفها دستور البحرين بأنّها “حجر الزاوية في المجتمع”. لكم جميعًا أعبّر عن سروري لأكون بينكم”.

توقف قداسة البابا بعد ذلك عند ما يميز مملكة البحرين من لقاء بين القديم والحديث واندماج بين التاريخ والتقدم، كما أشار إلى وجود ما أسماه فسيفساء حياة فريدة، أي أشخاص من أصول مختلفة. ثم تحدث البابا عن رمز الحياة لهذا البلد أي شجرة السنط التي تسمى شجرة الحياة، وانطلق من هذا الرمز ليتقاسم مع الحضور بعض الأفكار. وقال: “أولا إن سر بقاء هذه الشجرة على قيد الحياة يكمن في الجذور التي تمتدّ عشراتِ الأمتار في باطن الأرض، وترتوي من مستودعات مياه جوفيّة”. وفي سياق حديثه عن الجذور قال قداسته: “مملكة البحرين التزمت البحثَ عن ماضيها وتعزيزه، الذي يروي قصة أرض في غاية القدم، تدفَّق عليها الناس منذ آلاف السنين، منجذبين بجمالها، الظّاهر خاصّة في ينابيعها الغزيرة بمياهها العذبة فاشتهرت وكأنّها الفردوس: وسُمّيَت مملكة دلمون القديمة بـ ”أرض الأحياء“. وإذا عُدنا بالتاريخ إلى الجذور البعيدة في الزمن – إلى أربعة آلاف وخمس مئة سنة من الوجود البشري المستمر – يظهر كيف أنّ الموقع الجغرافيّ والميول والمهارات التجاريّة للناس، بالإضافة إلى بعض الأحداث التاريخيّة، أعطت البحرين فرصة لتكوِّن نفسها على ملتقى طرق لإثراء متبادل بين الشّعوب. بهذا يظهر أحد أوجه هذه الأرض: كانت دائمًا مكانَ لقاء بين شعوب مختلفة”.

“هذا هو الماء الحيّ الذي ما زالت جذور البحرين تستمد منه الحياة اليوم”، واصل الأب الأقدس، “وأكبر غِنى هذا البلد يتألّق في تنوّع الأعراق والثّقافات فيه، وفي العيش معًا في سلام، وفي ترحاب السّكان التّقليدي. وفيه تنوُّع من غير تسوية ساحقة، ولا تذويب للاختلافات. هذا هو كنز كلّ بلد متطوّر حقًا. وفي هذه الجزر يُعجَب المشاهد بهذا المجتمع المركّب المتعدّد الأعراق ومتعدّد الأديان، القادر على أن يتغلّب على خطر العزل. هذا أمرٌ مهمّ جدًا في عصرنا، حيث الانطواء الحصري على الذات والمصالح الخاصّة يمنع من إدراك الأهميّة التي لا غِنى عنها ”للكلّ معًا. عكس ذلك، هنا، الجماعات المتعددة القوميّة والعرقيّة والدينيّة التي تعيش معًا تشهد أنّه يمكننا ويجب علينا أن نعيش معًا في عالمنا، الذي أصبح منذ عشرات السّنين قرية عالميّة، حيث تُعتبر العولمة أمرًا مفروغًا منه، لكن ما زال، ولأسباب عديدة، ”روح القريّة“ غير معروف فيه، مثل الضّيافة، والبحث عن الآخر، والأخوّة. عكس ذلك، نشهد بقلق، وعلى نطاق واسع، ازدياد اللامبالاة والتّهم المتبادلة، وتوسّع الخصومات والصّراعات التي حَسِبنا يومًا أنّنا تغلّبنا عليها، والشّعبوية والتطرّف والإمبرياليّة التي تهدّد سلامة الجميع”.

وتابع البابا فرنسيس: “بدلًا من ذلك، لنفكّر في شجرة الحياة وفي الصّحاري القاحلة للعيش البشري معًا، لنوزع ماء الأخوّة: لا ندع إمكانيّة اللقاء بين الحضارات والأديان والثّقافات تتبخر، ولا نسمح أن تجفّ جذور البشريّة! لِنعمل معًا، ولْنعمل من أجل الكلّ معًا، ومن أجل الأمل! أنا هنا، في أرض شجرة الحياة، زارع سلام، لأعيش أيام اللقاء، ولأشارك في منتدى الحوار بين الشّرق والغرب من أجل عيش الناس معًا في سلام. أشكّر الآن رفاقي في السّفر وخاصّة ممثّلي الأديان. هذه الأيام تُمثّل مرحلة ثمينة في مسار الصّداقة الذي تكثّف في السّنوات الأخيرة مع مختلف القادة الدينيّين المسلمين: فهي مسيرة أخويّة تريد تعزيز السّلام على الأرض، تحت نظر السّماء”. وأعرب قداسة البابا هنا عن تقديره “للمؤتمرات الدولية ولفرص اللّقاء التي تنظمها هذه المملكة وتعززها، خاصّة مع التّركيز على الاحترام والتّسامح والحريّة الدينيّة”. كما وأشار إلى نص دستور المملكة على أنه “يجب ألّا يكون هناك تمييز على أساس الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو المعتقد”، وأن “حريّة الضّمير مطلقة” وأنّ “الدولة تحافظ على عدم المساس بالعبادة”.

عاد قداسة البابا فر نسيس بعد ذلك إلى إسهام أشخاص كثيرين من شعوب مختلفة ما سمح بتنمية إنتاجيّة ملحوظة في البحرين، أشخاص يشعرون بهذا البلد وكأنه بيتهم. وأشار قداسته هنا إلى أنه لا يزال في عصرنا “نقص كثير في العمل، وعمل لاإنسانيّ كثير: وواصل: “هذا لا ينطوي فقط على مخاطر جسيمة من حيث عدم الاستقرار الاجتماعيّ، بل يمثّل انتهاكًا لكرامة الإنسان. في الواقع، العمل ليس ضروريًا لكسب لقمة العيش فقط، بل هو حقّ لا غِنى عنه لتطوير الذات بشكل كامل ولتكوين مجتمع على قياس الإنسان”. وتحدث البابا فرنسيس بالتالي عن أزمة عمل عالمية، وقال: “العمل، الثمين مثل الخبز، يَنقُص غالبًا. وفي كثير من الأحيان، هو خبز مسموم، لأنّ فيه عبوديّة. في كِلتا الحالتَين، لم يَعُدْ الإنسان هو المحور. الإنسان هو أصلًا هدف العمل المقدّس والذي لا تمس كرامته، فيُحوَّل إلى وسيلة لإنتاج المال. لذلك، يجب ضمان ظروف عمل آمنة ولائقة بالإنسان في كلّ مكان، لا تمنع بل تشجّع الحياة الثقافيّة والرّوحيّة، وتعزّز التماسك الاجتماعيّ، لصالح الحياة المشتركة وتنمية البلدان نفسها”. وأشار الأب الأقدس إلى ما لدى البحرين من مكتسبات في هذا المجال وقال: ” أفكّر، مثلًا، في أوّل مدرسة للبنات في الخليج وإلغاء الرّقّ. لتكن منارًا لتعزيز الحقوق في كلّ المنطقة، وظروف عادلة وأفضل للعمال والنساء والشّباب، وتَضمن في الوقت نفسه الاحترام والاهتمام للذين يشعرون بأنّهم على هامش المجتمع، مثل المهاجرين والمساجين: التنمية الحقيقيّة، البشريّة والمتكاملة، تقاس قبل كلّ شيء بالاهتمام بهؤلاء”.

وانطلاقا من رمز شجرة الحياة أراد البابا فرنسيس التأمل في أمرين، الأول هو قضية البيئة، وقال في هذا السياق: ” كم شجرة قُطعت، وكم من النظم البيئيّة التي دُمّرت، وكم من بحار تلوّثت بجشع الإنسان الذي لا يشبع، والذي يؤدّي بدوره إلى نتائج عكسيّة! لا نكِلّ من العمل من أجل هذه القضيّة الملحّة والمأساويّة، واتخاذ خيارات عمليّة وبعيدة النظر، يتمّ اتخاذها من أجل الأجيال الشّابة، قبل فوات الأوان وقبل أن يتعرّض مستقبلهم للخطر! مؤتمّر الأمّم المتّحدة للتغيّر المناخي (COP27)، الذي سيُعقد في مصر بعد أيام قليلة، ليكن خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه”.

أما النقطة الثانية فكانت تفكير قداسته في “دعوة الإنسان، في كلّ إنسان على الأرض: بأن يجعل الحياة تزدهر. لكنّنا نشهد اليوم، وكلّ يوم المزيد، من الأفعال والتّهديدات بالقتل”. وتابع البابا فرنسيس مختتما كلمته: “على وجه الخصّوص، أفكّر في واقع الحرب الوحشيّ الذي لا معنى له، والذي يزرع في كلّ مكان الدّمار ويقضي على الأمّل. في الحرب يظهر أسوأ جوانب الإنسان: الأنانيّة والعنف والأكاذيب. نَعم، لأنّ الحرب، كلّ حرب، تمثّل أيضًا موت الحقيقة. لِنرفض منطق السّلاح ولْنقلب المسار، ونحوّل الإنفاق العسكري الضّخم إلى استثمارات لمحاربة الجوع ونقص الرّعايّة الصّحيّة والتّعليم. في قلبي يوجد ألَم لحالات الصّراع العديدة. أَنظر إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأودّ أن أحيّي بلدانها بحرارة واحترام، أتوجّه بتفكّير خاصّ وصادق إلى اليمن، المعذّب من حرب منسية، ومثل كلّ حرب، لا تؤدّي إلى أيّ نصر، بل فقط إلى هزائم مريرة للجميع. وبشكل خاصّ، أحمل بصلاتي المدنيّين والأطفال وكبار السّن والمرضى وأناشد: لِتسكت الأسلحة، ولْنلتزم في كلّ مكان وبصدق من أجل السّلام!.