لا نبالغ إذا قلنا بأن أهم طلب طلبه الرسل من معلمهم الإلهي هو أن يعلمهم الصلاة. نقرأ في الإنجيل المقدس، بأن التلاميذ طلبوا من يسوع أن يعلمهم الصلاة من بعد أن رأوه وهو يصلي، “وكان يصلي في بعض الأماكن، فلما فرغ قال له أحد تلاميذه: يا رب علمنا أن نصلي” (لوقا 11/ 1). هذا يعني بأن صلاة يسوع كان لها تأثيرا كبيرا في حياة التلاميذ بحيث طلبوا منه أن يعلمهم الصلاة. كذلك نقرأ في كتاب أعمال الرسل، أن حياة الجماعة المسيحية الأولى كانت مبنية بالدرجة الأولى على الصلاة.”وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات”. (2/ 42). وثمرة صلاتهم كانت: “أن الرب كل يوم كان يضم الى الجماعة أولئك الذين ينالون الخلاص” (2/ 47).
على ضوء هذه الآيات وخبرة الجماعة المسيحية الأولى نستطيع القول بأن الصلاة كانت الوسيلة الأولى التي مارستها الكنيسة وهي في بداية عهدها، للقيام برسالة التبشير والكرازة باسم باسم يسوع الناصري، المسيح الموعود ومخلص العالم. “فاعلموا جميعا وليعلم شعب اسرائيل كله أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه انتم فأقامه الله من بين الأموات، بهذا الأسم يقف هذا الرجل أمامكم معافى. هذا هو الحجر الذي رذلتموه أنتم البنائين فصار رأس الزاوية. فلا خلاص بأحد غيره، لأنه ما من اسم آخر تحت السماء أطلق على الناس ننال به الخلاص” (أعمال الرسل 4/ 10 – 12). بولص الرسول، مبشر الأمم وشهيد الحب الألهي، يذكرنا في رسائله أهمية الصلاة وتأثيرها الملحوظ على نشاطاته الرسولية وفعالياته التبشيرية. منها كان يستمد قوته وشجاعته لنقل فرح الإنجيل ونعمة الإيمان بيسوع المسيح الى الأمم والشعوب التي كانت تجهله. لنقرأ ونتأمل: “واظبوا على الصلاة ساهرين فيها وشاكرين. وصلوا من أجلنا أيضا كيما يفتح لنا الله بابا للكلام فنبشر بسر المسيح، وإني في القيود من أجله، فأعلنه كما يجب علي أن أبشر به” (قولسي 4/ 2 – 4). آباؤنا في الأيمان، أي الشهداء والقديسين والملافنة، جعلوا من الصلاة الركيزة الأولى لحياتهم المسيحية، ولهذا أثمرت رسالتهم الراعوية والروحية والتعليمية ثمرا كثيرا. مثلما لا توجد أرض خصبة ومثمرة من دون ماء كذلك لا توجد حياة مسيحية خصبة ومثمرة من دون صلاة.
نقرأ في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في العدد 2565 ما يلي: “الصلاة في العهد الجديد هي العلاقة الحية بين أولاد الله وأبيهم الذي لا حد لصلاحه، وابنه يسوع المسيح، والروح القدس. ونعمة الملكوت هي اتحاد الثالوث الأقدس بكامله مع الروح بكامله. وحياة الصلاة هي هكذا أن نكون بوجه عادي في حضور الله المثلث التقديس وفي مشاركة معه. وهذه المشاركة الحياتية هي دائما ممكنة، لأننا بالمعمودية قد صرنا كائنا واحدا مع المسيح. الصلاة مسيحية بكونها مشاركة في المسيح وتمتد الى الكنيسة التي هي جسده وأبعادها هي أبعاد محبة المسيح”. نعم، هذا الشرح عن الصلاة المسيحية، يؤكد لنا بأن الصلاة هي نعمة مجانية من الله تجعلنا أن نعيش حياتنا اليومية العادية في حضوره، وهذا الشعور العميق بالعيش في حضور الله هو مصدر فرح ورجاء وسلام. الصلاة النابعة من القلب تنقلنا من الحياة الأرضية إلى الحياة السماوية.
مع الأسف، إن الصلاة التي يطلبها منا ربنا يسوع المسيح، له كل المجد والاكرام والسجود، فقدت الكثير من أهميتها في وقتنا الحاضر. خلال زيارتي الأخيرة الى العراق للمشاركة في سينودس كنيستنا الكلدانية ، قمت بزيارة عدة أبرشيات والتقيت بكثير من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، ومن خلال الحديث الذي جرى معهم أدركت أن هموم الكثيرين منهم هي هموم مادية بحتة وليس لها أية صلة برسالتهم الروحية والرعوية التي من أجلها كرسوا حياتهم. غالبا ما كان يدور الحديث عن البيع والشراء والبناء والاستثمار والاتصال بذوي النفوذ في الدولة والمنظمات الأجنبية للحصول على الأموال والدراهم. ذكرتني هذه الهموم بهموم رجال الأعمال والتجار الذين همهم الوحيد هو أن يزيدوا على ما لديهم من ثروات مادية. لقد نسينا أو تناسينا ما يقوله راعينا الصالح ومثالنا الأول والأوحد بهذا الخصوص: ” فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون أوما تشربون ولا تكونوا في قلق، فهذا كله يسعى إليه وثنيو هذا العالم، أما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون اليه بل اطلبوا ملكوته تزادوا ذلك” (لوقا 12/ 29 – 31). “مرتا، مرتا، إنك في هم وارتباك بأمور كثيرة مع أن الحاجة الى أمر واحد. فقد اختارت مريم النصيب الأفضل ولن ينزع عنها” (لوقا 10/ 41 ).
ومما يدعو الى القلق والحزن، أنه حينما يجري الحديث عن مواضيع مثل الصلاة والحياة الروحية وقراءة الكتاب المقدس والتأمل به يسخر البعض من طرح هكذا مواضيع ويعتبروها تافهة وقد مر عليها الدهرولا تنسجم مع التطور العلمي والثقافة العصرية السائدة والتي تدعو غالبا ما الى نبذ القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية. إن التيار العلماني، الذي يحذرنا منه البابا فرنسيس، والذي يروج للإلحاد والاستغناء عن الله، قد غزا حتى كنائسنا وجعلها أن تنحرف عن مسيرتها الأصيلة ورسالتها المقدسة السامية التي رسمها لها ربنا والهنا يسوع المسيح الذي قال: “إذا أبغضكم العالم فأعلموا أنه قد أبغضني قبل أن يبغضكم. لو كنتم من العالم لأحب العالم ما كان له. لكن لأنكم لستم من العالم إذ اني اخترتكم من بين العالم فلذلك يبغضكم العالم ” (يوحنا 15/ 18 – 19). رسالة الكنيسة هي أن تسير ضد تيار العالم وليس أن تتبعه وتتشبه به. إن الذي يدعو الكنيسة إلى التجديد والتغيير والإصلاح ليس ما يجري في العالم من تحول كبير في مجال العلم والثقافة والتكنولوجيا بل ربنا يسوع المسيح نفسه يدعونا إلى التوبة والاهتداء والعيش حسب روح التطويبات الأنجيلية وذلك لكي نكشف لعالم اليوم جمال الحياة المسيحية ورسالتها المقدسة التي تهدف الى تحقيق خير الإنسان وسعادته الأبدية.
فقط الصلاة تجعلنا أن لا ننسى هدف حياتنا المسيحية ورسالتنا الرعوية والروحية، أي أن نكون شهودا للمسيح الحي يوثق بهم وذلك من خلال حياة تتميز بالفقر والتواضع ونقاوة القلب والفرح والسلام والخدمة المجانية. لنضم صوتنا الى صوت الرسل قائلين: “يا رب علمنا أن نصلي”.
أرجو من كافة الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلي من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية. مع الشكر ولنبق متحدين بالصلاة رباط المحبة الذي لا ينقطع.