حلم صعب بقلم الخوري أنطوان الدويهيّ

في الآونة الأخيرة، خسرتُ ممثِّلاً قديرًا، يُعتبرُ من الرعيل الأوَّل الذين مثَّلوا على شاشات التلفزيون اللبنانيّ. كنتُ أزوره باستمرار، وفي إحدى تلك الزيارات سألته: “ما رأيك بالتمثيل اليوم؟”

فأجابني:

“كان للتمثيل طابع خاصّ، فالكاتب يركِّز على التربية والأخلاق وإيصال التعاليم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة السامية، من صدقٍ وإخلاص وتعاون واحترام الكبير وعدالة ومسامحة وسواها. بالإضافة إلى أنَّ اللغة العربيَّة الفصحى كانت السائدة، وهذا يدخل أيضًا من باب تعليم اللغة والثقافة. فيتربَّى الأولاد تربية سليمة إلى جوار ما يتلقَّونه من تربية في البيت والمدرسة.

“أمّا اليوم، فحدِّث ولا حرج. دخلت أوَّلاً المسلسلات المكسيكيَّة المدبلجة ثمَّ المسلسلات التركيَّة حتَّى حلَّت فترة محلَّ المسلسلات المحلّيَّة، وجميعها تركِّز على القتل والإجرام والانتقام من جهة، وعلى الخيانة الزوجيَّة والمساكنة وإنجاب الأولاد غير الشرعيِّين والطلاق السهل من جهة ثانية، وهذه أمور لم تكن موجودة في عالمنا الشرقيّ، فراحت تتغلغل فيه حتَّى قضت على ما تبقَّى من قيم وأخلاق اجتماعيَّة. فتأثَّرت المسلسلات المحلّيَّة الشرقيَّة بهذه الأخلاق المتدنِّية ودخلت الأفكار الشرّيرة والكلمات البذيئة واللاأخلاقيَّة في الحوار والسيناريو بل في القصَّة برمَّتها…

“كنَّا ننتظر الحلقة المقبلة من مسلسل ما، بشوق ولهفة من أسبوع إلى أسبوع، ويمتدُّ المسلسل إلى ثلاث عشرة حلقة. أمّا اليوم فيُعرض المسلسل يوميًّا ويطول إلى ما فوق المئة حلقة مع أجزاء عديدة، وتتوالى الأحداث مع ما تحمل من سفالةٍ وتدنٍّ في القيم، دون هدف أو خلاصة قيِّمة. وترى الناس يتهافتون على مشاهدة تلك المسلسلات بنسبة عالية…

“بكلمة، انتقل فنُّ التمثيل من عالم مثاليّ وأخلاقيّ بامتياز، إلى عالم متدنٍّ ومنحطٍّ. فتأثَّر المجتمع الشرقيّ بهذه الروح، وتفكَّكت الأُسر وانحطَّ المستوى الأخلاقيّ بشكل ذريع، فارتفعت نسبة الطلاق والقتل والإجرام والخيانة والسرقة…

“للإعلام السلطة الأولى لا الرابعة. هو الذي يتحكَّم اليوم بالمجتمع العالميّ. ألم يشلَّ العالم كلَّه فترة من الزمن بسبب فيروس قاتل انتشر سريعًا؟ والفيروس باقٍ حتَّى اليوم، ولكن لا أحد يتكلَّم عليه أو يحذِّر منه، أو حتَّى يفرض عقوبات لمن لا يتقيَّد بتوجيهات الصحَّة العالميَّة…

“فقد عالم اليوم البوصلة التي تحافظ على الحدِّ الأدنى من الأخلاق الاجتماعيَّة. وللإعلام الدور البارز في ذلك. فالتحريض على الأخذ بالثأر والقتل المباح حفاظًا على الشرف، أو لأجل السرقة، والخيانات الزوجيَّة المنتشرة وغيرها تُعدُّ اليوم من البطولات وتدعو إليها المجتمعات علنًا، بالرغم من القوانين الصارمة بعدم الخيانة والسرقة والقتل بل إدانة القاتل…

“إن شئنا إعادة المجتمع إلى سابق عهده، فعلى المجتمع بأَسره أن يتكاتف أوَّلاً لتنظيف الإعلام من كلِّ تأثير سلبيّ، والتركيز على القيم والأخلاق الاجتماعيَّة والإنسانيَّة. وإن تكاتف حقًّا فلن نعيد المجتمع إلى ما كان عليه بالسرعة التي انحطَّ فيها. فالهدم سهل أمّا إعادة الإعمار فتتطلَّب نفَسًا طويلاً وسنوات من الكفاح والنضال لأجل إدخال القيم الأخلاقيَّة السليمة من جديد.

وهذا حلم يصعب تحقيقه