هَا هُوَ ذا قداسة البابا الألماني الأصل بندكتوس السادس عشر قد انطلقَ مِن ظلِال الزمن العَابر ومِن دُنيا الغُربة إلى بَيتِ الآب وَمَجده في السَّماء، المكان الذي أعدَّه للذين يُحبُّونَه حيث:" مَا لمْ ترَ عينٌ ولا سمعت به أُذُنٌ ولم يخطُر على بالِ إنسانٍ؛ فأعلنه الله لنا نحن بروحِهِ" كما جاء في رسالة القديس بولس الرسول. وإنْ كانت شمعة عُمُرِ قداسته الزَّمنية قد انطفأت فإنَّ شموع "الإيمان والرجاء والمحبة" التي أوقدَ في رحلةِ حياته الحافلة ستبقى تُبدِّد عَتَمات الدروب، وستبقى تَهْدي مَسيرتنا على مَا أرادَ بِهَدفِ أنْ:" نقِفَ أكثرَ أمام الله الذي كشف عن نفسه في يسوع المسيح؛ وأن نتعرف إلى صوته الذي ينادينا فيقودنا إلى أعماق وجودنا إلى مصدر الحياة، إلى مصدر الخلاص، كي يجعلنا نتجاوز محدودية حياتنا وننفتح على مِقياس الله وعلى عُلاقتنا به
إذْ هو المحبة المتناهية".
تحتَ سماء بلدة ماركتيل مِن أَعْمَال ولاية بافاريا وفي سنة1927 أبصرَ قداسته النور، وكان اسمُهُ قبل الحَبْرِيَّة "جوزيف راتزنغر". وقد نَشَأ وترعرع ومَضَت به مراحل حياته، فإذا بها تتابع زاخِرةً بمحطاتها المختلفة بما حَباهُ الله من مواهبَ روحية، فَسِيِمَ كاهناً سنة 1951 نال بعدها بسنتين درجة دكتوراة عن أطروحة لِمَبْحَثٍ عن القديس أغسطينوس. تأهل بعدها لدرجة الأستاذية، فأخذ يُحاضِر في اللاهوت والفلسفة ويُعلِّمْهُما في جامعات ألمانية إلى جانب خِدمته الكهنوتية. هذه التي توالت درجاتها مع المواقع التي تَسَنَّمَها وشَغَلها حيث تَبَدَّت ثِمار الرُّوح في شَخصيتهِ وأدائِه: "المحبة والفرح والسلام وطول الأَنَاة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتَّعفُّفِ". ويشاءُ التدبيرُ الإلهي أن يختاره في العام 2005 رُباناً لسفينة القديس الشهيد بطرس الرسول" الصـَّخرة، الصـَّفاة" التي بـُنـِيـَت عليها الكنيسة الأولى. هذه السفينة التي سَخَّرَ طاقته فقادها بحكمةٍ وفِطنة وإلهامٍ ربَّاني وسط عَالَمٍ مُضطرب الأمواج. ومع بلوغه السادسة والثمانين مِن عُمره شاءَ التنحي عن الكرسي الرسولي لِنداءِ الجَّسَد لهُ بالراحة ولأوامِر الطِّب. فتفرّغَ البابا الذي مُنِح لقبَ" الفَخْري" بالكامل للصلاة والتأمُل ولإنجاز مُؤلَّفات ناهزت مع ما سَبَقَها مائة مُؤلَّفٍ. جاءَت مِن عِلمٍ غزيرٍ وَفِكرٍ نَيّرٍ، وخبرةٍ مَكِينةٍ لفيلسوفٍ لاهوتِي، ومُفكرٍ مُلهَمٍ ومُعَلِّمٍ أكاديمي. فكانت وستبقى إثراءً متميزاً للكنيسة ولجماعة المؤمنين وللباحِثين المُختصين.
فَجْر السبت ومع نهاية اليوم الأخير مِن العام الذي ودَّعناه مِن أيام قليلة وعلى قول السيد المسيح: " يا أبَتِ في يديك أَجْعَلُ رُوحي"، غادر عَالَمَنا "حارس الإرث الرُّوحي الذي أورثه إياه البابا-القديس- يوحنا بولس الثاني". وفي القداس الجنائزي المَهيب الذي جرى في ساحة القديس بطرس في الخامس من هذا الشهر خاطبه قداسة البابا فرنسيس في خِتام كلمةٍ مؤثِّرَة قائلاً:" يا بندكتوس، صديق العريس الأمين ليكُن فرحُكَ كاملاً في سماع صوته بشكل نهائي وإلى الأبد". تلكَ الكلمة التي جَعلت العَبْرات تسيلُ حَرَّى على وَجَنات مَن شَاركَ ومَن شَاهدَ!
أيَا "سيِّد التعليم المسيحي العظيم" كما وَصَفكم قداسة البابا فرنسيس، هَا إنَّ عَيني تَقَعُ على ما ورد في كتابكَم القيِّم "رَبِّ عَلِّمنا أن نُصلِّي"، إذ تَحُثُّونَنا فيهِ بقولكم: "فلّنُربِّ أنفُسنا على عَلاقة عَميقة باللَّه، على صَلاةٍ لا تكون من وقتٍ الى آخر، بل ثابتة، مَليئة بالثقة، قادرة على تنويرِ حَياتنا، كما يُعلِّمنا يسوع. ولنطلبْ منهُ أنّ نَتَمكنَ مِن نقل فرح اللقاء مع الرب، نورِ وُجُودِنا، الى الذين يُحيطون بنا والى الذين نلتقي بِهم على دَربِنا". هذا ما أردتُم ببصيرتكم الإيمانية الثاقبة. وفي موقعٍ آخر مِن الكتاب جاءَ قولكم: "فلنفتح بشكلٍ متزايدٍ قلوبنا لرحمة الله الوافرة، كيما نعرف بالصلاة اليومية كيف نرغب في خلاص البشرية، ونطلبه مِن الرَّب ذي الرحمة العظيمة بمثابرة وثقةٍ". وأُسَدِّدُ نَظَري فأراكُم تَحُثُّونَ على قراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه مع طلبِكُم "بأن يكون الكتاب المقدس في بيوتنا". وأراكم في الوقت عينهِ توجِّهُونَ الأنظار إلى "مدرسة الصلاة" أي سِفر المزامير كما وَصَفتُم. أما عن الصلاة بِصَمتٍ فأقفُ متأمِلاً مُتبصِّراً عند قولِكُم: "الصَّمتُ قادِرٌ على حَفرِ مَجالٍ داخلي في أعماقِ أنفُسنا ليَجعَل الله يَسكُن فيه، كي تَبقى كلمته فينا، كي تتجذّر محبتنا لهُ في عقولنا وقلوبنا، وتُحيي حياتنا".
وعلى مَا مَنَّيْتُم به النفس وأرى أهميةً في تطبيقهِ: " في أن يُصبح فِكر الرسول بولس غِذاءً روحياً لمؤمِنيّ جميع الأزمنة" كما جاء في واحدٍ من الدروس والتعاليم التي تفتح الأذهان، بل تُوقِظها فَتُدرك رسالة وحياة وتضحيات "الإناء المُختار" بولس الرسول، حامل مِشعل رسالة المسيح للأمم، أقفُ هُنا عند موقعٍ في الكتاب الذي جمع تلك الدروس والتعاليم وحملَ اسم" بولس الرسول- في تعليم قداستكم-" حيث بيَّنتمَ:" لقد أصبح القائمُ بداية وجود بولسَ ونهايته، وسببَ سِباقه وهدفه". وأضفتُم: "أصبحت العلاقة بين بولس والقائم من بين الأموات عميقة لدرجة تجعله يؤكد أن يسوع لم يعُد فقط حياته، بل عَيشه، لدرجة أنَّ الموت نفسه يُمسي ربحاً من أجل الوصول اليه". وفي إضاءَةٍ ساطعةٍ عن ماهية إيماننا أشرتم في واحدٍ من تلك الدروس: "أنَّ ايماننا لا يَنشأ مِن أسْطورَة ولا مِنْ فِكرة، بَلْ مِنْ اللِّقاء مع القائِم مِن بَين الأموات، في حَياة الكنيسة". وأقولُ هنا ألا ليتنا نضع هذه الحقيقة نُصبَ أعيننا ونُبقيها على ألسِنتنا في زمنٍ كَثُر فيه الناكرين والمُنكرين والجاحِدين!
أيَا "سيِّد التعليم المسيحي العظيم" أتَمثَّلُكَ السَّاعةَ تُردِّد على مَسَامِعِنا قولكَ الخالد لنمضي على هَدْيه: "علينا نحنُ جَميعاً أن نُنْشِئ حَياتنا على هذهِ الحكمةِ الحَقَّة: ألّا نَعيشَ مِنْ أجلِ ذَوَاتِنا، بل أن نَعيش في الايمان بذاك الاله الذي نستطيع أن نقول عنه جميعاً: (لَقَدْ أحَبَّني حتى بَذَلَ نفسَهُ عَنّي)".
وأتَمثَّلُكَ السَّاعةَ، تُعلِن مُجدَّداً السبيل الوحيد للوصول" لحضارة المحبة" ولعالمٍ يسوده العدل وترفرف عليه أجنحة السلام مُذكِّراً عَالمَنا بقولِكَ: "نُريد نَحنُ أيضاً أن يَتَغَّير هذا العالم مِن أساسِه، وتبدأ حَضارة المَحَبّة، ويأتي عَالم العَدالة والسلام دون عُنفٍ ودون جوع. نُريد كل هذا.. وكيف يُمْكِن أن يَحصل هذا دون حُضور يسوع؟ دون حُضور يسوع لَنْ يَأتي أبداً عَالَمٌ صَالِحٌ ومُتجددٌ فعلاً".
وقبلَ أنْ أمْسِكُ القلم الذي أراه يجري على غير ما اعتادَ مَهابةً وإجلالاً.. أقول: حَسْبُك الآن يا مِثال المتأمِّلين والأصْفياء والمتواضعين، يا مَن حافظت على وديعة الإيمان، وناديتَ بالمحبة، وإعلاء راية الفضائِل وتفعيل ثِمار الروح، وكافحتَ الكفاح الشريف على المنابر وفيما أودعته بقلمكَ في مضامين الكُتُب.. حَسْبُكَ الآن قداسةَ البابا بندكتوس مُشاهدةَ وَجه ربِّك الذي سَيَهَبُ لكَ إكليلَ الحياة مَعه وفيه.