وصل والتقى البابا فرنسيس بعد ظهر الجمعة، أول أيام زيارته الرسولية إلى جمهورية جنوب السودان قادمًا من جمهورية الكونغو الديمقراطية، السلطات وممثلي المجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، وذلك عقب وصول طائرته جوبا في الثالثة إلا ربع من بعد الظهر ولقائه رئيس الجمهورية ونائبه.
وفي بداية كلمته، أعرب البابا عن سعادته لوجوده في هذه الأرض التي يحملها في قلبه. وأضاف:
“أتيت حاجَّ مُصالحة، حاملا حُلم أن أرافقكم في مسيرتكم نحو السلام، إنّها مسيرة صعبة، ولكن لا يمكن تأجيلها بعد.
لم آتِ إلى هنا وحدي، لأنّه في السّلام، كما في الحياة، نسير معًا. ها أنا ذا بالتالي مع أخَوَين: رئيس أساقفة كانتربري ورئيس الجمعيّة العامّة لكنيسة اسكتلندا… ومعًا، مادين إليكم أيدينا، نأتي إليكم وإلى هذا الشعب باسم يسوع المسيح، أمير السّلام”. وواصل: “لقد بدأنا الحج المسكوني هذا من أجل السلام، بعد أن سمعنا صرخة شعب بأكمله يبكي، وبكرامة كبيرة، بسبب العنف الذي يعاني منه، والانعدام الدائم للأمن، الفقر الذي يصيبه، والكوارث الطبيعيّة التي تعصف به. سنوات من حروب وصراعات يبدو أنّها لا تعرف النّهاية، وفي الآونة الأخيرة أيضا كانت هناك اشتباكات حادة، بينما تبدو عمليّات المصالحة مشلولة وتبقى وعود السّلام غير محقَّقة. فلّا تذهَبن سُدًى هذه المعاناة المُرهقة، إن صبر وتضحيات شعب جنوب السّودان، الشّاب، والمتواضع والشّجاع، تخاطب الجميع، وكالبذار التي تعطي في الأرض الحياة للنّبات. لتتفتحْ براعم السّلام لتؤتي الثمار”.
وأراد البابا فرنسيس أن ينطلق في كلمته حول مجرى الحياة من صورة نهر النيل الذي يمر بهذا البلد، فبدأ قداسته بالينابيع وقال لممثلي السلطات: “أنتم هذه الينابيع، الينابيع التي تروي العيش المشترك، أنتم آباء وأمّهات هذا البلد الفَتِيّ. أنتم مدعوّون إلى أن تجدّدوا الحياة الاجتماعيّة، كينابيع صافية للازدهار والسّلام، لأنّ هذا ما يحتاج إليه أبناء جنوب السّودان: آباء لا أسياد، خطوات ثابتة للتنمية لا سقطات مستمّرة. لتترك السّنوات التي تَلَت ولادة البلد، والتي تميّزت بطفولة جريحة، المجال لنموٍّ سلميّ. السُّلطات الموقرة، إن ”أبناءكم“ والتّاريخ نفسه سيتذكرونكم إن كنتم قد عَمِلتُم الخَير لهذا الشّعب، الذي أُوكِلَ إليكم لتخدموه. ستكرّم الأجيال القادمة أو ستمحو ذكرى أسمائكم، بناءً على ما تصنعونه الآن، لأنّه مثلما يترك النهر الذي يترك منابِعَه لكي يبدأ مجراه، فكذلك سيترك مجرى التّاريخ وراءه أعداء السّلام وسيرفع عاليًا الذين يصنعون السّلام، فالكتاب المقدس يعلّم أنَّ “لِلمُسالِمِ ذُرِّيَّةً باقِيَة” (راجع سفر المزامير 37، 37).
ثم توقف البابا عندما وصفها بكلمة هامة، جمهورية، فقال: “ماذا يعني أن نكون جمهوريّة؟ يعني أن نعترف بأنّنا جمهور، واقع عام، أيْ، أي التأكيد على أنّ الدّولة هي للجميع، ومن ثَمّ، من يحمل فيها مسؤوليّات أكبر، مترئسا إياها وحاكما لها، لا يمكنه إلّا أن يضع نفسه في خدمة الخير العام. هذا هو هدف السُّلطة: خدمة الجماعة”. وتابع مشددا على ضرورة “ألا تكون الموارد الوافرة التي بارك بها الله هذه الأرض محصورة في أيدي قليلين، بل في متناول الجميع، ولتوضع في خطَط الانتعاش الاقتصادي مشاريع من أجل توزيعٍ عادلٍ للثّروات”. كما تحدث عن التطور الديمقراطي فقال إنه “أساسيّ من أجل حياة الجمهوريّة. إنّه يحمي الفصل المُفيد بين السّلطات، بحيث يستطيع، مثلًا، من يُدير القضاء، أن يمارسه من دون تأثير مِن قِبَل مَن يُشَرِّع أو يحكم. تفترض الدّيمقراطيّة أيضًا احترام حقوق الإنسان، التي يحميها القانون وتطبيقه، وخصوصًا حريّة التّعبير عن الرّأي. في الواقع، علينا أن نتذكّر أنّه من دون عدل لا يوجد سلام (راجع القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة في مناسبة اليوم العالمي الخامس والثّلاثين للسّلام، 1 كانون الثّاني/يناير 2002)، ولكن أيضًا أنه من دون حريّة لا يوجد عدل”.
وواصل البابا فرنسيس متابعة مجرى مسيرة السلام والرجاء باستخدام صورة مجرى النيل، فتوقف عند جريان النهر وصولا إلى منطقة قريبة من جوبا حيث أصبح صالحا للإبحار ثمّ دخل في مناطق مليئة بالمستنقعات. وتابع: “بالمِثِل، أتمنّى ألّا يسير مسار الجمهوريّة نحو السّلام في صعود وهبوط، بل، وانطلاقًا من هذه العاصمة، يصبح قابلا للسير عليه، ولا يقَعَ في مستنقع الخمول”. وأكد أنه “قد حان الوقت للانتقال من الأقوال إلى الأفعال، الالتزام من أجل تحوّل عاجل وضروريّ، لقد حان وقت الابحار معًا نحو المستقبل”. كما وتطرق البابا إلى تلاحم نهر النيل مع نهر آخر ليبدأ النيل الأبيض، وشدد بالتالي على أن صفاء المياه اللامع ينشأ من اللقاء. وأكد أن التصرف الأساسي لعمليات السلام، والذي لا غنى عنه أيضا من أجل التنمية المتلاحمة للمجتمع، هو “استقبال الآخرين كإخوةً لنا وإعطاؤهم فسحة، مع القدرة أيضا على التراجع عن مواقفنا”، كما وشدد على أهمية دور الشباب وإشراك النساء في المسيرات السياسية واتخاذ القرارات.
تحدث الأب الأقدس بعد ذلك عن تعليم يسوع أننا “كلّما أصبحنا صِغارًا مانحين مساحة للآخرين، ومستقبلين كلّ قريب كأخً، كلما صرنا كبارًا في عيني الرب”. وأكد في هذا السياق حاجة جنوب السودان إلى “إعادة اكتشاف روح اللِقاء، وإلى نعمة التّواجد معًا”. وقال: “هناك حاجة إلى النظر إلى ما هو أبعد من المجموعات والاختلافات، لكي نسير كشعبٍ واحد، تحمل فيه الروافد المختلفة، مثلما يحدث لنهر النيل، الغنى”. وأشار الأب الأقدس هنا إلى وصول المرسلين هذا البلد وعملهم وأيضا نشاط العاملين الإنسانيين، ودعا إلى دعمهم وأيضا إلى حمايتهم مذكرا بالمرسلين الذين “لقوا الموت بينما كانوا يزرعون الحياة”.
ومواصلا استخدام صورة النهر تحدث البابا فرنسيس عن الفيضانات والكوارث مذكرا بأنها تشير إلى خليقة مجروحة علينا العناية بها. شدد من جهة أخرى على أن الوقاية من الفيضانات تتطلب الحفاظ على المجرى نظيفا، وتوقف عند محاربة الفساد باعتبارها “النّظافة التي يحتاج إليها مسار الحياة الاجتماعيّة”. وأشار البابا هنا إلى تفكيره في النازحين ومَن اضطروا إلى أن يتركوا بيوتهم ووجدوا أنفسهم على هامش الحياة بسبب الاشتباكات والتهجير القسري. ثم تطرق البابا فرنسيس إلى ما يجب وضعه من حواجز وسدود لتفادي تحول مياه الحياة إلى خطر موت، وشدد هنا على ضرورة “إيقاف الأسلحة التي يستمرّ وصولها، على الرّغم من الحظر، إلى الكثير من بلدان المنطقة وأيضًا إلى جنوب السّودان”. وأضاف: “هناك حاجة إلى أمورٍ كثيرة هنا، ولكن بالتّأكيد لا إلى مزيد من أدوات الموت”. ثم أشار إلى أهمية التربية والتعليم مذكرا بأن أطفال هذا البلد “مثل كلّ أطفال هذه القارّة والعالم، لهم الحقّ في أن ينموا حاملين في أياديهم دفاتر وألعابًا، لا أدوات عمل وأسلحة”.
وانطلاقا من مسار النيل الأبيض ولقائه النيل الأزرق تحدث البابا فرنسيس عن أنه “من الضروري اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لكي نصل إلى تنمية ملائمة، أن ننمّي علاقات إيجابيّة مع البلدان الأخرى، بدءًا من البلدان المُجاورة”، كما وأشار إلى المساهمة الثمينة للجماعة الدولية. وشدد من جهة أخرى على ضرورة مقاومة إغراء فَرض نماذج مسبقة غريبة عن الواقع المحلّي مذكرا بكلمات البابا يوحنا بولس الثاني “يجب إيجاد حلول أفريقيّة للمشكلات الأفريقية”. وختم البابا فرنسيس مؤكدا أن كلماته التي قد تكون صريحة ومباشرة تنبع “فقط من المودّة والاهتمام اللذَين أتابع بهما أحداثكم، مع الإخوة الذين أتيت معهم إلى هنا، حاجَّ سلام”.