أن نَعِظَ بالإنجيل أسهلُ كثيراً مِن أن نَعيشَ الإِنجيل
في إنجيل متّى وفي تدفق السّياق في الفصلين الرّابع والعشرين والخامس والعشرين، نقرأ أن يسوع بينما كان مع تلاميذه على جبل الزيتون سأله التلاميذ عن الايام الأخيرة فِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟»” متى 3:24
وفي ردّه على أسئلتهم، ذكر يسوع بعض القرائن حول الدينونة الأخيرة.
وكذلك أكّد على السّهر والعمل والاستعداد الدائم لمجيئه الثاني، وحذّر من الكسل على مثال العذارى الجاهلات اللواتي فاتهنّ لقاء العريس، إذ لم يهيئن مصابيحهن. ودعا أيضاً إلى مضاعفة الجهد في استثمار الوزنات. وختم له المجد بفقرة وصفية لدينونة الأمم (متى 25: 31-46) حملت أهم ما ورد إلينا من دروس في انجيل ربنا يسوع المسيح بأكمله، وفيها دروسٌ لا يريدُ كثيرون منّا سماعَها.
في تصويرٍ ملحميّ للدينونة (متى جاء ابن الانسان مع ملائكته والقديسين وجلس على عرش مجده..) يوضح النصّ كيف ستكون الدينونة وكيف سيكافِئُ الصدّيقين ويعاقِب الملاعين. هنا يبدأ عهدُ يسوع الملك، فيفصل الأمم الى مجموعتين: خراف وجداء. ويرحب بالخراف عن اليمين والثّناء على ما قاموا به من أعمال الرّحمة وخدمة المحتاجين. فيما يسمَع الملاعين الجداءُ حكمه بإبعادهم الى النار الأبدية، بسبب فشلهم في القيام بواجبهم نحو من كانوا بحاجة الى عمل الرحمة.
وهنا يبرز السؤال: كيف علينا أن نتصرف نحن كمسيحيين وأين نحن من إنسانيتنا التي يطلبها الانجيل المقدس؟
لقد أوضح الإنجيلُ المقدس المسؤوليةَ الاجتماعية كجزء من رسالة الانجيل الكاملة. لذلك، وحيال ما يواجه مجتمعاتنا من مشاكل وصعوبات اقتصادية ومعيشية ومن اسباب الفقر، فإن من واجبنا الإصغاء إلى السيد المسيح الذي يطلب أن نبدأ، على الأقل، بالاحتياجات قصيرة الاجل ونهتمّ بالأمور الأسهل ولو بتقديم الطعام للجائع.
نحن نلتقي الله في عباداتنا وصلواتنا وصومنا وصدقاتنا وتقادمنا. والاعمال الصالحة لا تقتصر على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس، على أهميتهما، بل تشمل أيضاً، حسب التعليم الإجتماعي في الإنجيل، اعمال الرحمة من إطعام الجياع واكساء المحتاجين، لتكون محبّتنا للقريب محبةً عملية، باقترابنا نحوه بأفعالنا لا بأقوالنا، ونعثر على وجه الله في أخينا الإنسان.
يخبرنا الإنجيل كيف كان يسوع أثناء رسالته الأرضيّة غالباً بين من جاء من أجلهم من الخطأة والضعفاء والفقراء والمحتاجين، وهو نفسه وُلِد في ظروفٍ صعبة من الفقر والحاجة وعاش حياتَه “دون أن يكون له موضع يسند اليه رأسه” . فنحن إذن مدعوون لان ننضمّ اليه في خدمة الجياع والمحتاجين.
حدّثني كاهنٌ شارك بأعمال خيرية، في إحدى المناطق التي تعرّضت لكارثة، فقال: “لاحظتُ أن الطواقم انهمكت في ترميم إحدى الكنائس. فكان اهتمامهم وأولويّتهم اصلاح المبنى وليس إغاثة المحتاجين. وبعد ان أنهى أفراد الطافم اعمالهم مضوا وتركوني، لأبقى وحيداً أواجه مسؤولية تدبير مساعدة الجائعين في منطقتنا. فالجائعون ليسوا على سلّم أولوياتهم”.
إنّ سلوكاً كهذا يدفعنا لنسأل إذا كنّا فعلا نرى المسيح في وجوه الفقراء والمحتاجين بيننا، أو نجرؤ على النّظر إلى ما خلف الوجوه والملامح وفي عمق أرواح هؤلاء، لنرى المعاناة والقلق والألم والرّفض والوحدة والاكتئاب، ونرى آلامهم كأخوة صغار تحدّث عنهم المعلّم وأوصانا بهم.
وبعيداً عن توفير الرعاية المادية من طعام وكساء، هل نلمس في أنفسنا استعداداً لوقفة منّا او زيارة حانية لغريب او لمريض؟!
إذا أردنا حقّاً أن نرى يسوع، فعلينا ان نذهب لرؤيته ولقائه هناك في وجه أخينا الانسان. فهل نلاحظ نحن الغريبَ والقريبَ بيننا، وهل نسعى للعثور عليه ؟ وعندما نرى مريضاً او محبوساً، فهل نلقي عليه نظرةً فاحصةً لكي نرى يسوع فيه؟ فالبعض يتجنب الجوعى والضعفاء، وربما لا يلاحظ وجودهم أو أنه لا يريد أن يراهم، فيبتعد عنهم! وهذا سلوك محزنٌ يدلّ على بُعدِنا عمّا يريده منا السّيد في الانجيل. وليس هذا ما نقرأه في انجيله عن انسانيتنا وقربنا من المحتاج.
وهل نتذكر أن الايمان الحيّ ترافقه اعمال البرّ والرحمة وليس أعمال الناموس، وأن الايمان بدون أعمال ميّت (يعقوب 17:2) ، أم أننا نقرأ في كتابٍ آخر غير إنجيله؟!
إن ما جاء على لسان المعلّم في وصف الدينونة العامة يمثّل موقفاً من المعاناة الانسانية، ويدعونا لنرى أخوته الصّغار، فنضمّد جراحاتهم ونخفف معاناتهم على مثال رحمة السّامري.
فها هو أوان التّوبة!
ولأن من شروط اتّباعنا للسيّد المسيح المشاركةَ معه وعلى مثاله في تخفيف معاناة الآخرين، فلنخرج إذن في موسم صومنا المبارك هذا من مؤسساتنا التي جعلناها مساحاتٍ منعزلة، ولنغادر (قصور) كبريائنا و(أبراج) أنانيّتنا، التي أبعدتنا عن الآخرين، لنعيش الإنجيل في مجتمعِنا فنُطعِم يسوع ونكسيه ونهتمّ به من خلال إخوته الصغار.