“يأتي الرب إلينا عندما نبتعد عن الـ “أنا” المتغطرس. هو بإمكانه أن يقصر المسافات معنا عندما نحمل له هشاشتنا بصدق وبدون ادعاء. هو يمدُّ لنا يده لكي ينهضنا عندما نعرف كيف “نلمس الحضيض” ونستسلم له في صدق القلب” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا رتبة التوبة في كنيسة رعيّة القديسة مريم سيّدة النِعَم في روما.
في إطار مبادرة “٢٤ ساعة للرب”، ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر الجمعة رتبة التوبة في كنيسة رعيّة القديسة مريم سيّدة النِعَم في روما وللمناسبة ألقى الاب الأقدس عظة قال فيها “إلا أن ما كان في كل ذلك من ربح لي عددته خسرانا من أجل المسيح”. هذا ما يعلنه بولس الرسول في القراءة الأولى التي سمعناها. وإذا سألنا أنفسنا ما هي الأشياء التي لم يعد يعتبرها أساسية في حياته، لا بل كان سعيدًا بفقدانها من أجل العثور على المسيح، نتنبّه أن الأمر لا يتعلّق بحقائق مادية، وإنما بـ “ثروات دينية”. هكذا هو الأمر: لقد كان رجلاً تقياً وغيورًا، فريسيًا أمينًا ومحافظًا. ومع ذلك، فإن هذه العادة الدينية، التي كان بإمكانها أن تشكل استحقاقًا، وتفاخرًا، وثروة مقدسة، كانت في الواقع عائقًا. ولذلك يؤكد بولس: “عددت كل شيء نفاية لأربح المسيح”.
من هو غنيٌّ بنفسه وبـ”مهاراته” الدينية يفترض أنه بارٌّ وأفضل من الآخرين، ويسمح لنفسه بأن تكتفي بواقع أنّه حافظ على المظاهر؛ ويشعر أنَّ كلَّ شيء على ما يرام، ولكنه بهذه الطريقة لا يمكنه أن يفسح المجال لله لأنه لا يشعر بالحاجة إليه. فقد احتل الـ “أنا” مكان الله، وبالتالي، حتى لو تلا صلوات وقام بأفعال مقدسة، فهو لا يتحاور حقًّا مع الله. لذلك يذكرنا الكتاب المقدس أن “صلاة الفقير تبلغ الى الغيوم”، لأن فقراء الروح فقط، والذين يحتاجون إلى الخلاص ويتسوّلون النعمة، يحضرون أمام الله بدون أن يظهروا استحقاقات، وبدون ادعاءات وغرور: لا يملكون شيئًا ولذلك يجدون كل شيء لأنهم يجدون الرب.
تابع البابا فرنسيس يقول يقدم لنا يسوع هذا التعليم في المثل الذي سمعناه. إنها قصة رجلين، فريسي وعشار، صعدا كلاهما إلى الهيكل ليُصلِّيا، ولكن واحدًا فقط يصل إلى قلب الله. وقبل ما فعلاه، يتحدث عنهما موقفهما الجسدي: يقول الإنجيل “انتَصَبَ الفِرِّيسيُّ قائِماً يُصَلَّي”، بينما العشار “وَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء”. لنفكر للحظة في هذين الموقفين. الفريسيُّ ينتصب واقفًا. إنه واثق من نفسه، ينتصب واقفًا ومنتصراً كشخص يستحق الإعجاب لبراعته. في هذا الموقف هو يصلي إلى الله، لكنه في الواقع يحتفل بنفسه: أنا أذهب إلى الهيكل، وأحافظ على الوصايا، وأقدم الصدقات … وبالتالي فإن صلاته رسميًا لا تشوبها شائبة، وظاهريًا يرى نفسه رجلًا تقيًا ورِعًا، ولكن، بدلاً من أن ينفتح على الله ويحمل له حقيقة قلبه، هو يخفي ضعفه في النفاق. فهو لا ينتظر خلاص الرب كعطيّة، ولكنه يتوقعه تقريبًا كمكافأة على استحقاقاته. يتقدم بلا تردد نحو مذبح الله لكي يجلس في الصف الأول، ولكن ينتهي به الأمر بالذهاب بعيدًا ليضع نفسه أمام الله!
أَمَّا العشار تابع الأب الأقدس يقول فوَقَفَ بَعيداً. هو لم يحاول أن يتقدّم، بل بقي بعيدًا. لكنَّ هذه المسافة هي التي تظهر أنه خاطئ إزاء قداسة الله، وهي التي تسمح له بأن يختبر عناق الآب المبارك والرحيم. ويمكن لله أن يصل إليه لأنه، من خلال بقائه بعيدًا، أفسح له ذلك الرجل المجال. كم هو صحيح هذا أيضًا بالنسبة لعلاقاتنا العائلية والاجتماعية والكنسية أيضًا! يكون هناك حوار حقيقي عندما نعرف كيف نحافظ على فُسحة بيننا وبين الآخرين، فُسحة سليمة تسمح لكلِّ فرد بأن يتنفّس بدون أن يتم امتصاصه أو إلغائه. عندها يمكن لهذا الحوار، ولهذا اللقاء أن يقصِّر المسافة ويخلق القرب. هكذا يحدث أيضًا في حياة ذلك العشار: بوقوفه في مؤخرة الهيكل، يعترف حقًّا بما هو عليه أمام الله: بعيدًا، وبهذه الطريقة يسمح لله بأن يقترب منه.
تابع الحبر الأعظم يقول أيها الإخوة والأخوات، لنتذكر هذا الأمر: يأتي الرب إلينا عندما نبتعد عن الـ “أنا” المتغطرس. هو بإمكانه أن يقصر المسافات معنا عندما نحمل له هشاشتنا بصدق وبدون ادعاء. هو يمدُّ لنا يده لكي ينهضنا عندما نعرف كيف “نلمس الحضيض” ونستسلم له في صدق القلب. هكذا هو الله: هو ينتظرنا في العمق، لأنه في يسوع أراد “أن يذهب إلى العمق”، ليحتل المكان الأخير، جاعلًا من نفسه خادمًا للجميع. هو ينتظرنا في العمق، لأنه لا يخشى أن ينزل إلى الهاوية التي تسكننا، ويلمس جراح أجسادنا، ويقبل فقرنا، وفشل الحياة، والأخطاء التي نرتكبها بسبب الضعف أو الإهمال. إنَّ الله ينتظرنا هناك، وينتظرنا بشكل خاص في سر الاعتراف. أيها الإخوة والأخوات، لنفحص اليوم ضميرنا، لأن الفريسي والعشار يُقيمان كلاهما فينا. لا نختبئنَّ وراء رياء المظاهر، وإنما لنوكل إلى رحمة الرب بثقة، عتماتنا، وأخطائنا، وبؤسنا. وعندما نذهب للاعتراف، لنبقى في الخلف، مثل العشار، لكي نعترف نحن أيضًا بالمسافة التي تفصل بين ما حلم به الله لحياتنا وما نحن عليه حقًا كل يوم. وفي تلك اللحظة سيقترب الرب ويقصِّر المسافات ويُنهضنا على أقدامنا. في تلك اللحظة، بينما نعترف بعُرينا، هو يلبسنا ثوب العيد. وهذا هو لا بل هكذا يجب أن يكون سرّ المصالحة: لقاء عيد يشفي القلب ويترك السلام في داخلنا. لا محكمة بشرية نخاف منها وإنما عناق إلهي نجد في التعزية.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول في زمن الصوم هذا، وبندم القلب، لنهمس نحن أيضًا مثل العشار: “الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!”. لنُكررها معًا: الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. عندما أنساك أو أُهملك، عندما أضع كلامي وكلمات العالم أمام كلمتك، عندما أفترض أنني بار وأحتقر الآخرين، وعندما أتحدث بالسوء عن الآخرين، الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. عندما لا أعتني بالذين هم بقربي، وعندما أكون غير مبال بالفقراء والمتألِّمين، بالضعفاء أو المهمشين، الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. من أجل الخطايا ضد الحياة، من أجل الشهادة السيئة التي تشوِّه وجه الكنيسة الأم الجميل، من أجل الخطايا ضد الخليقة، الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. لأكاذيبي، وخداعي، وافتقاري للشفافية والشرعية، الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. من أجل خطاياي الخفية، من أجل الشر الذي فعلته للآخرين بدون أن أتنبّه لذلك، ومن أجل الخير الذي كان بإمكاني أن أفعله ولم أفعله، الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. لنكرر بصمت لبضع لحظات بقلب تائب ومُفعم بالثقة: الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ. وفي فعل التوبة والثقة هذا، سننفتح على فرح العطيّة الأسمى: رحمة الله