القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس

ترجمة: مجد زغيب، وطوني حرب.

إلهُنا النّاظرُ إلى الأسافلِ لتقديسِنا.

سؤالٌ: إن أرادَ شخصٌ ما، العَيشَ كما يجب، لكن محيطُهُ لا يتناغمُ وأسلوبَ حياتِه، فماذا يفعل؟

جوابٌ:

كما سبق وقلنا، لا المحيطُ، ولا أيُّ شيءٍ آخرَ، يمكن أن يُعيقَ الإنسان. لقد عاش الشّهداءُ، تحت تهديد السّلاح والقتل، لكن أحدٌ لم يقوَ على إبعادِهم من المسيح؛ نتيجةَ ثقتِهم بالمسيح. تبدو هذه الخِبراتُ نظريّةً للعالم، ولكنّها عمليّةٌ للغاية. خُذوا على سبيل المثال، فردًا من عائلةٍ ما، يقاتلُ لعَيشِ حياةٍ تقيّةٍ، مع أفرادٍ آخرين يعارضونه، من دون تفاهُمٍ متبادلٍ في ما بينهم. من النّاحية العمليّة، ماذا بمَقدور هذا الفرد أن يفعل؟ لكن إن نظرنا إلى المسألة من النّاحية النّظريّة، وبعمقٍ وفهمٍ روحيَّينِ، نرى أنّ هذا الفردَ يجب أن يقتنيَ الثّقةَ بالله؛ اللهِ القدّوسِ الّذي يعرف كلَّ شيء، ويتحكّم بكلِّ شيء. لن يشعرَ بعدَها بأنّه وحيدٌ، أو أعزلُ في مواجهة محيطِه. ينبغي له أن يؤمنَ بأنّ الله معه، وبأنّه يأخذ بيدِه كي يثبتَ على صخرةِ الإيمان، ويساعدُه في تجاربِه وجهادِه.

ليس اللهُ غريبًا؛ ليس اللهُ مثل النُّبَلاء، ذوي المستوى الرّفيع في المجتمع، الّذين أتوسّل إليهم، وأستعطفهم، وأنتظر منهم المساعدة. هم يَعِدون ولا يوفون؛ أمّا الله، فهو أوّل من يهتمّ بي، ويقلق عليّ، منذ أن نفحَ بِي الرّوح، وبثّ فيّ الحياة؛ هو الوحيد ،الّذي يدري ما يدور حَولي، وما يفكّر به محيطي. فهل ينساني إذن؟ يريدني أن أحيا، حسبَ مشيئتِه ووصاياه، بِغَضّ النّظر عمّا يحدث في عائلتي.

من المستحيل، أن يحرمَ اللهُ إنسانًا من الخلاص، أو القداسة؛ من المستحيل، أن يميّز اللهُ إنسانًا عن الآخر، أو أن يفضّل إنسانًا على آخر. يهتمّ اللهُ بقطيعه، بقدرِ اهتمامِه بالرّسول بولس والقدّيسين. فكِّرْ بهذه الطّريقة، وقُل: «يا ربُّ، أنتَ تعرفُ كلَّ شيء. وبما أنّك تسمح لهذا بأن يحدث، فليكن مبارَكًا». باتّباعِنا هذا النّهجَ، نرى الأمورَ بنحوٍ مختلفٍ، ونواجه بطريقةٍ مختلفة. لكن عندما لا نسير على هذا النّهج، فإنّنا نعاني من صعوباتٍ جمّة.

يجب أن نتمثّل بشهداء الكنيسة الأوائل، الّذين قاسَوا العذابَ بطرائقَ كثيرةٍ، ورُموا لوحوشِ البراريّ، وقُطعَت رُءوسُهم، وسُلِخَ جِلدُهم عن أجسادهم… لم يستسلمْ أحدٌ منهم، ولم يتمنَّ أن يكون في مكان راحَةٍ، بعيدًا من الجلّادين الّذين يكافئونه على جهادهِ وسيرتِه الحسَنة، بالتّعذيب والتّقريع. كان إيمانُهم من صخرٍ، وقد ثبتوا حتّى النّهاية؛ لأنّهم كانوا على يقينٍ، بأنّ الله يدعمُهم، ويساندُهم.
 

مهما كانتِ الكأسُ مريرةً، فإنّها تصبح حلوةً إذا سلكتُم طريقَ الرّبّ.

لا ينبغي لأحدٍ، أن يقول: « ماذا أفعل، وأنا في عائلةٍ مثل هذه، مع أقارب مثل هؤلاء؟ إذا كنتَ قادرًا على الانتقال إلى مكانٍ آخر، إلّا أنّك تُراوِح مكانَك، فأنتَ المخطئ إذن. ولكنّكَ إن كنتَ غير قادرٍ على الانتقال إلى مكان آخر، أي غير قادرٍ على تغيير الحال، فيكون هذا نصيبكَ في الحياة، والله سيكون معك، ولستَ بحاجةٍ أن تبحث عنه. سيكون مُلازِمًا لكَ حيثُ أنت، في ظلمتكَ، وفي خِفيَتِكَ، حيث يُسمَعُ الصّراخُ عندما يَلومونك، ويعاملونك بسوء. لن يقول الله لك: «اُخرج، من هناك، وتعال إلى الجبل، أو إلى الصّحراء، حيثُ السّكون، كي نتحدّث».

فلنأخذ، على سبيل المثال، امرأةً لديها زوجٌ سِكّيرٌ ومُقامِرٌ. من الممكن، أن تكون هي المسؤولة عن وضعِها التّعيس؛ بسبب اختيارها له. لو حَكَّمت عقلَها، لما اختارته. سامِحوني، لكن يجب عليّ، أن أوضح إنّنا نرتكب بعض الأخطاء؛ لأنّنا نمضي قُدُمًا بعيونٍ مغلقةٍ، ونتسرّع في القرار، كما يتسرّع كبار السّنّ في تزويج الفتيات الصّغيرات، خشيةَ أن يفوتهنّ القطار. من الممكن، أن يعاني أطفالُ هذه المرأة المتزوجّة، من بعض المشاكل النّفسيّة، والأمراض العصبيّة، أو الاضطرابات العقليّة، ومشاكلَ أخرى مماثلة. وبالرّغم من ذلك، إذا لم تَلُمْ هذه المرأةُ أحدًا، وإذا رأت أنّها هي المسؤولة عن وَضعِها، وتحمّلت اللَّوم، متوقِّعةً رحمةَ الله، فسوف تتقدّس.

بعبارةٍ أخرى، تقول هذه المرأة: «يا ربُّ، أفهمُ الخطأ الّذي ارتكبتُه. لم يكن عليّ الاستمرارُ في هذا الزّواج. الآن، أتذكّر جيّدًا كيف كان ضعفي مسيطرًا عليّ، ولم أفكّر فيك. الشّيءُ الوحيدُ الّذي أردتُه، هو الزّواج. والآن، حصدتُ ثمار أفعالي. ولكنّني أعترف بِخَطئي، وأعلم أنّني أستحقّ أن أعانيَ، وأقاسيَ هذه العذابات كلَّها. ولكنّك رحومٌ، يا إلهي. أنا التّرابيّةَ، قد أخطأتُ. لكن بما أنّك رحومٌ، وشفوقٌ، وحنونٌ، وأنا أؤمن برحمتك، ستغفر لي. أؤمن بأنّه، في هذه الحالة، سوف تتقدّس روحي». نعم، سوف تتقدّس هذه المرأة.

يخبر باباديامانتيس1 في إحدى قصصه، عن امرأةٍ يعاملها زوجُها معاملةً سيّئةً، ولم يعد يريدها. فجلب امرأةً أخرى، للعيش في البيت نفسِه. وتوسّلت زوجتُه إليه، قائلةً: «على الأقلّ، دَعْني أبقى هنا، لرعاية المنزل والأطفال». لقد أظهرت هذه المرأة، شجاعةً كبيرة، وذاقت مُرَّ الكأس. لكن يجب علينا أن نكون حَذِرين هنا؛ لأنّ مثل هذه الحالات، تحتاج تمييزًا. لأنّ الشّخص قد يفعل ذلك، بسبب مصالحِه الخاصّة. وهناك حالاتٌ أخرى مشابهةً، تحصل نتيجةَ حكمةٍ إلهيّة.

مهما كانتِ الكأسُ مريرةً، فإنّها تصبح حلوةً إذا سلكتم طريق الرّبّ، وتقبّلتُم المكانَ الّذي وضعكم فيه، وتقبّلتم إرادتَه ووصاياه. ما أجمل الفرح الّذي يشعر به الّذين نعدُّهم بائسين، في هذه الحياة! إنّ تَحَمُّلَهم الصّعابَ، بهذه الطّريقة الإلهيّة، يجعل فرحَهم لا يوصف. بسبب مِحنَتِها، توفّيت المرأة في قصّة باباديامانتيس بعد وقتٍ قصيرٍ، ولم تَعِشْ حياةً طويلة. عندما حان وقتُ الكشف عن رفاتِها، انبعثت منها رائحةٌ زكيّة. قبرُها، وعظامُها كلُّها تعطّرت برائحةٍ زكيّة. في تلك اللّحظة، أدرك زوجُها ما فعله، وقال: «يا إلهي، ما الّذي فعلته؟» فتاب، وبكى وانتحب.
 

الحزنُ المُرسَل من الله، يغذّي النّفس ويُنمّيها.

سؤالٌ: لِنَقُلْ إنّ إنسانًا يواجه المَصاعِب؛ بسبب أطفاله، أو قَرينه، أو بسبب محيطه غير الأخلاقيّ الّذي لا يتوافق مع إيمانه. هذا الإنسان سينتفع روحيًّا، بقدر ما يتحمّل ويعاني؛ لأنّ الله يرى جهادَه، ويكافئه عليه. لكن ما عساهُ أن يفعل، تجاه القلق الّذي ينهشُه، خوفًا من محيطه وعليه؟ سيقول في نفسِه: «ربّما ولدي لن يُشفى؛ ربّما قريبي سيَضلّ؛ ربّما زوجتي… إلخ».

جوابٌ:

إنّه خطأٌ كبيرٌ. إنّ الله يخاف على أطفالك أكثر منك، ويهتمّ بهم. والحال نفسُها في موضوع زوجتك. الضّعف البشريّ، هو ما يؤدّي إلى القلق. ألا يعلم الله بما يجري؟ بكلّ شيء؟ من الجيّد أن تشاركَ عائلتَك، أو أطفالَك، أو زملاءَك أحزانَهم، وأن تعانيَ لمعاناتِهم. إنّك بذلك تكون شهيدًا حيًّا، لكن عندما يحصل هذا بطريقةٍ إلهيّةٍ، يتبدّد القلقُ، وتتقدّس النّفس.

كثيرًا ما نقول، إنّ الحزنَ المرسَلَ من الله، يغذّي النّفس، وينمّيها. لذا، اُحصل على هذا الحزن بقدر ما استطعت. ولكنّ المستفيدَ الأكبر، هو مَن يتوب، ومن يبكي بحرقةٍ، وهو يذرف دموعَ التّوبة، لا دموع التَّذَمُّر. معظم النّساء يأتينَ إليّ، ويعترفنَ، وهنّ نائحاتٌ. إلّا أنّني لا أُبدي لهنّ أيّ تأثّرٍ، أو تفاعل. عندما يَرَيْنَني بارِدًا، يتوقّفنَ عن البكاء. إنهنّ يَنُحْنَ، وهذا لا يُجدي نفعًا. الحزنُ الذّاتيُّ يجلبُ اليأس، أمّا أَلَمُ التّوبة، وانسحاقُ النّفس، فهما وحدَهما غذاءُ الرّوح.

الوضعُ نفسُه، في موضوع قلقِك على من تحبّ، خاصةً أولادَك. إن كنتَ تتألّم بطريقةٍ روحيّةٍ، فهذا الألمُ مقدّسٌ، لكن إن كنتَ تحزن نتيجة ضعفكَ، وحبِّك لذاتِك، فإنّ القلقَ سوف يبتلعُك. كونوا حذرينَ، من فضلكم. كم عددُ الأمّهات اللّاتي يعانينَ، بسبب أطفالهنّ الّذين سلكوا طريق الخطَإِ؟ إنّهنّ يتألّمنَ كثيرًا. لماذا؟ لأنّ أحلامَهنَّ بتربيةٍ صالحةٍ، قد ضاعت، وأصبحت هَباءً وغبارًا. بدلاً من أن يكونَ أولادهم قدوةً لغَيرِهم، نشَئُوا ليكونوا عكس ذلك. هذا ما يجرح الأمّ، ويثقل كاهلَها، ويُتعبها، ويقلقها ليلَ نهار. تكون محظوظةً، إن حظِيَت بأوقات راحةٍ في اليوم.

عندما يبدأ الإنسانُ برؤية الأمور بشكلٍ سليمٍ، يأتيه الخلاص على الفور. بمعنًى آخرَ، يقول: «ماذا فعلتُ؟ كيف فكّرتُ بتلك الطّريقة؟ يا له من خطإٍ فادحٍ! الخلاصُ لا يأتي منّي. أنتَ يا ربُّ تهتمّ بي، وبأطفالي، وبالجميع. أتوب إليكَ وأستغفر. سامِحْني، وأنِرْني لأتصرّف على نحوٍ أفضلَ، من الآن فصاعِدًا». حتّى إن احترقتِ الأمُّ من البكاء، كوالدة القدّيس أوغسطينس، وهي تردّدُ في نفسِها هذا الكلام، لن يقوى الألمُ عليها، أو يسحقَ روحَها.

كيف تميّز بين الحزن المرسَل من الله، والعواطف الّتي ليست من الله؟ ببساطةٍ، إن كان القلقُ، يُشغِلُكَ طَوال الوقت، فهو ليس من الله. إنّه لشيءٌ مستحيل. القلق يولد عندما لا نُحقِّقُ مشيئتَنا. تواضَعْ، وقلْ: «يا ربّ، فليكن مبارَكًا. فلتكن مشيئتُك». ضع كلَّ شيءٍ بين يدَي الله، وهو يُريحُك. المتواضِعُ لا يشعرُ بالقلق. إنّ حالتَك الرّوحيّة، هي الّتي تحدّد ما إن كنتَ متواضِعًا أم لا. إن كنتَ تقلق، فهذا يعني أنّك غيرُ متواضع. وإن كنتَ لا تقلق، فهذا يدلّ على أنّك هادئُ الأعصاب، ولا يؤثّر فيكَ شيءٌ، أو على أنّك متواضع.

1 روائيٌّ يونانيٌّ.