هناك فرق بين صياح ضجيجي وصياح استغاثي، فكان النوع الثاني هو الصياح الذي صدر عن إمرأة من نواحي صور وصدا، تلك الإمراة الكنعانية التي كانت إبنتها فلذة كبدها تعاني من مسٍّ شيطاني حتى أنها أصيبت بالجنون.
وماذا أحنّ من قلب الأم، فهي مستعدة أن تمشي فوق الجمر لأجل أبنائها، مستعدة أن تجوع وتعطش لتشبع أبناءها وترويهم، مستعدة أن تحرم نفسها من كل شيء مقابل أن توفّر لأبنائها أي شيء، مضحية بأن تسهر طول الليل ليطمئن قلب أولادها. هي الأم، نعم، هي الأم .. والأمومة شيء عظيم في الحياة. وهكذا هي الكنيسة فهي أمٌ لنا جميعاً. والأم تحضن أبنائها وتجمعهم كما تجمع الدجاجة فراخها، ولا تضحي بأحد منهم، بل تلّطف الأجواء، وتحنِّن القلوب، وتزرعُ الفرح والسلام والتآلفَ والمصالحةَ بين القلوب، وكلُّ ذلك لأنها الأم، المستعدة أن تضحي بكل شيء في سبيل أن تحافظَ على كلِّ أولادها.
لقد هز قلب السيد المسيح محبة هذه الأم وإيمانها، رغم أنها كنعانية ولا تعرف كُنهَ الله كما أُوحي لنا، ولكنها وثِقَت أن باب الرحمة لا يقفل أبدا، فصرخت مستنجدة ” ارحمني يا سيد…”. وقد أوكل السيد المسيح هذا الباب لكنيسته المجيدة على الأرض بأن تكون أبوابها أبواب رحمة، لأن الله رحيم ويأمرنا السيد والمعلم قائلا ” كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي أيضاً رحيم”. فهل أبوابنا هي أبواب رحمة؟ أم أنَّ صرخات الناس بالنسبة لنا هي ضجيج خلفنا؟
هكذا ظّن تلاميذ المسيح في تلك الحادثة، فأرادوا أن يصرفوها. لم يفهموا بعد بابَ الرحمة الذي كان ينادي به المسيح ويريد أن تتمثل به الكنيسة عبر العصور والأزمان، فصرخات البشرية دائماً تناشد بالرحمة، وقلوبنا يجب أن تكون قلوبَ رحمة إن كنّا ندّعي الإيمان وبنوّة الله لنا. فما معنى حياتنا إن إمتلأت جفاوة وقساوة وتحجراً وأغلقت أحشاءها تجاه من يطلبون الرحمة؟
وأما تعليقات المسيح فتستحق الوقوف عندها، لأنها بفلسفتها إنما تعكس طبيعة تفكير المجتمع الأناني المتعصب الذي لا يكترث لآلام وعذابات الآخرين، والذي يظن أن الله له وحده وليس سواه، فيلغقَ باب الرحمة الإنسانية تجاه البشر، وكأنهم من كوكب آخر أو من طبقة دونية لا يستحقون حتى الفتات الساقط من مائدة أربابها!
فأين وصل عالمُنا اليوم؟ أين الرحمة في قلبه؟ فباب الرحمة لا يجب أنْ يغلقَ أبداً بوجه طارقه! وأخطرُ شيءٍ عندما تتحجّر قلوب مؤسساتِنا وتفقد قلوب الرحمة.