إنجيل البشير يوحنا في عمقه اللاهوتي يقدِّمُ لنا الشهادة الحقه التي قدمها يوحنا المعمدان بن زكريا واليصابات بشخص السيد المسيح الذي اعتمد منه في نهر الأردن ليكمِّل كل بّر، فيوحنا نفسه رأى الروح نازلاً مثلاً حمامة وآتيا مستقراً عليه، واختبر سماع صوت الآب السماوي بقوله “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”، واختبر السماء المفتوحة التي انشقّت لحظة عمّاد السيد المسيح وخروجه من الماء. فما كان من المعمدان في اليوم التالي إلا أن صرخ قائلا: ” هوذا هو حمل الله الذي يرفع خطايا العالم”.
ولذلك يقدم المعمدان شهادته بشخص السيد المسيح بأنَّهُ يتقدمَه في كلِّ شيءٍ كما ويتقدم كلَّ ذي بشر، لأنه موجود حتى قبل أنْ يكون يوحنا نفسه موجوداً موكدا بذلك حقيقة الكلمة المتجسد، ومشيراً بذلك إلى أزلية المسيح وكذلك أبديته. وكونه من حضن الآب السماوي أي من قرب نبض قلبه فهو القادر أن يكشف عمق أعماق الذات الإلهية ومحبته اللامتناهية للبشر ما لم يقدر عليه أيُّ مرسل أو نبّي سبقه. ولذلك جاء صوت الآب السماوي في عمّاده يشهد له ويقول ” هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا”. فهذه البنوة هي بنوة إلهية ولا يجب أن تفهم بتاتاً بالمفهوم البشري التقليدي.
وأهم ما يشير إليه يوحنا المعمدان في شهادته بالمسيح أنه “المِلء” الذي يملأ كلَّ شيء، وما أحوجنا نحن البشر أن نأخذ من هذا المِلء نعمةً فوق نعمة، فهو الرّب الكامل الذي من ملئِه نحن جميعاً أخذنا ونعمةً فوقَ نعمة، لذلك نصلي ونقول “أيها الملك السماوي المعزّي، روح الحق، الحاضر في كل مكان، والمالئ الكل، كنز الصالحات، ورازق الحياة، هلم واسكن فينا وطهرنا من كل دنس، وخلص أيها الصالح نفوسنا”.
علاوة على ذلك فإن شهادته بالمسيح أنه هو الحَّق اليقين، فبواسطته أُعطينا النعمة والحق، صحيح “أن الناموس بموسى أعطي ولكن النعمة الحق فبيسوع المسيح صارا”. والنعمة، وجمعُها نِعَمٌ هي هبات لا يستحقها العبد، ولكنَّها هباتٌ سماوية ننعم بها ونتنعّم بها وتملأ القلب فرحا وسلاما وشبَعا “كما من شحم ودسم تشبع نفسي”،
وأما الحق فهو الحق الإلهي، وهو الحق الذي يحررنا من قيود الشيطان والشر والخطيئة، الحق الذي يجعلنا أبناءً لا عبيداً لشهواتنا وأنانيتنا وذواتنا، وإنما ملكٌ لله الآب السماوي الذي أنعَمَ علينا بأن نكون من مختاري الله القديسين المحبوبين، الذين أحبَّهم إلى المنتهى، والذين لأجلهم أنار طريق الحياة والخلود بواسطة الإنجيل المقدس، وبقول المسيح ” فإن حرركم الإبن بالحقيقة تكونون أحرارا”. فلا أجمل ولا أغلى ولا أبهى من أن يتمتع الإنسان بالحرية الحقيقية النابعة من داخله، لأنها اختبار حقيقي لمعنى الحياة ولذتها.
فما أروع شهادتك أيها المعمدان، أنت الصوت الصارخ في البرية ” أعدوا طريق الرّب، اصنعوا سبله مستقيمة”.