تداولت الاخبار المحلية مؤخراً عن احتمالية اختيار كنيسة البترا البيزنطية الأثرية كواجهة محتملة للحج المسيحي في المستقبل القريب، وهي خطوة تعتبر مهمة لعدة أسباب على رأسها الاستغلال الذكي لغنى التنوع الحضاري والتاريخي في وطننا الحبيب من أجل تسويق السياحة المحلية على الصعيدين المحلي والعالمي.
لهذه الكنيسة أهمية خاصة في نفسي لانه كان لي الامتياز بأن أكون الصحافية التي أبرزت هذه الكنيسة من خلال تغطية لجريدة الجوردن تايمز في عام 2013، التقرير سلط الضوء على الجمال والتاريح العريق لهذا الموقع وقد حظي باعجاب وسائل الاعلام الغربية، وتم تداول التقرير بشكل كبير آنذاك.
كنت قد علمت عن هذه الكنيسة من خلال ندوة خاصة ضمت شخصيات عالمية، ومن جملة الحضور كان هناك باحث آثار إيطالي اسمه فرانكو سيوريللي يعمل وفريقه على التنقيب في الموقع الاثري في المدينة الوردية، فعندما علم بتخصصي في الصحافة في التقصي والكتابة عن الاثار المسيحية في الاردن بالاضافة الى التخصص المنفرد في الحوارات بين أتباع الاديان، شاركني بما يقوم به وفريقه بالتنقيب عن كنيسة بيزنطية يعود عمرها إلى 450 ميلادي، بُنيت على أنقاض آثار نبطية ورومانية.
شد اهتمامي ليس فقط الحديث عن تاريخ بيزنطي عريق في المنطقة، بل أيضاً عندما كشف لي بالصور عن قطعة فسيفساء متماسكة تبلغ طولها 70 متراً مربعاً، تتواجد على طرفي الهيكل وتمثل الفصول الاربعة وتعكس البيئة وتصور المحيطات. أدركت بأن وجود مثل هكذا قطعة متماسكة من الفسيفساء يشير إلى ندرة ما تم اكتشافه والتنقيب عنه، نظرًا لعدم تلفها بفعل الطبيعة أو تدخل الإنسان حتى الآن.
وبالطبع جعلني الفضول الصحفي أرغب في معاينة هذا الكنز الاثري والكتابة عنه، لذلك طلبت منه بأن يصطحبني إلى الموقع، وهو ما حدث فعلياً. ذهبنا إلى المدينة التاريخية العريقة البترا، وكانت فرصة لابراز التحفة الاثرية للعالم.
تم اكتشاف كنيسة البترا لأول مرة في عام 1990، من قبل عالم الآثار كينيث راسل. الحقيقة بأن هذا الموقع البيزنطي الاثري هو ليس مجرد كنيسة اعتيادية، بل هي كاتدرائية كاملة واضحة المعالم، وعادة الكاتدرائية تكون أكبر من الكنيسة من حيث المساحة، ومن حيث المكانة الكنسية التي يحتلها المسؤول والذي يطلق عليه الاسقف.
ولانها كاتدرائية، فذلك يعني بأنها تقع في مدينة كبيرة ومزدهرة، كما يقرأ لنا التاريخ عن حضارة البترا في العصر البيزنطي، ويكون فيها الكرسي الرسولي أي الاسقف، وتكون عادة محاطة على الاقل بعشر كنائس.
لاثراء المعلومة، التقيت مع السيد كريستوفر تاتل، المدير المساعد لمركز البحوث الشرقية الأمريكي آنذاك، الذي أفادني بأن الامر لم يتوقف عند اكتشاف الكاثدراثية فحسب، بل الاهيمة تكمن في ما تم اكتشافه من بقايا داخل إحدى غرفها التي نجت من الحريق، لانه وكما اخبرني، تعرضت الكاتدرائية لحريق كبير عام 600 ميلادي قضى على معظم معالمها. وأما الاكتشاف غير المتوقع كان في عام 1993 وهو العثور على 152 مخطوطة من ورق البردى المتفحمة مخبأة داخل إحدى غرف الكاتدرائية، والعجيب بأن جزاً بسيطاً منها قد نجا من الحريق.
الصدفة -وشخصياً لا أومن بالصدف- هي التي اوصلت علماء الاثار في عام 1993 لاكتشاف المخطوطات، وكما قال تاتل، بأنه وخلال فترة عيد الميلاد المجيد، حينما كان علماء الآثار والخبراء في البترا يستعدون للمغادرة إلى عمان لقضاء العطلة، بسبب الظروف الجوية الصعبة وقتها، تطلب منهم أن يحتموا داخل غرفة من غرف الكنيسة، ليكتشفوا مادة محترقة في زاوية الغرفة الذي تبين بعد المعاينة بأنها لفة مخطوطات متفحمة، مكتوبة باللغة اليونانية البيزنطية، وجزء من هذه المخطوطات المحترقة لا يزال محتفظ بجودته بالرغم من الظروف والزمن.
لقد نجت المخطوطات من الحريق الذي وقع عام 600 بعد الميلاد وتسبب في تفحم البرديات، ومن المفارقات أنها ظلت محفوظة، إلا أن الحريق كان سبباً في إحداث أضرار في أجزاء من الأرضية الفسيفسائية في داخل الكنيسة.
إكتشاف المخطوطات كان ذات أهمية كبيرة، فقد قدم لعلماء الآثار ومحبي التاريخ رؤىً وعمقاً حول العصر البيزنطي في القرن السادس الميلادي.
هذه المخطوطات تشبه كبسولة زمنية، كشفت عن معلومات عديدة عن سكان المنطقة وطبيعة حياتهم اليومية، فمثلاً كان فيها معلومات عن أرشيف عائلة ثيودوروس، وهو من أحد أعضاء نخبة الكنيسة، ووفرت أيضاً السجلات القانونية البيزنطية المتعلقة بتسجيل مبيعات العقارات وتحويلات الضرائب، بالإضافة إلى إدراج الأسماء اليونانية واللاتينية والنبطية لمدينة البترا، ومعلومات أخرى عن وسكانها من زواج ومعمودية وغيرها من تفاصيل اجتماعية واقتصادية وقانونية عن الحياة في البتراء في القرن السادس، مما يوفر نافذة غنية وفريدة من نوعها على تلك الحقبة، كما أفادتني في مقابلة خاصة مديرة المركز الامريكي حينها باربرا بورتر.
الاهتمام بالكنيسة من ترميم وإعادة بناء أدى إلى المزيد من الاكتشافات، وبالذات اكتشاف المزيد من الغرف التي كانت جزء من الكاتدرائية، ومنها التأكيد على أن كنيسة البتراء كانت مقراً للأسقف في ذلك الوقت وكانت مكرسة لـ «السيدة المباركة وكلية القداسة العذراء مريم الفائقة المجد».
ومع استمرار أعمال التنقيب تم الكشف عن كنيستين أخريتين، وهما الكنيسة الزرقاء، وكنيسة ريدج، على نفس جانب التل.
كاتدرائية البترا تقع على بعد بضع مئات من الأمتار من شارع الأعمدة ومعبد الأسود المجنحة، وهي تشكل موقعاً أثرياً مثيراً للاهتمام بالاضافة إلى كونه موقعاً للحج المسيحي.