في النص الإنجيلي من إنجيل لوقا الإصحاح التاسع ( لو 9: 57-62) تتردد جملة ” ملكوت الله” على لسان السيد المسيح مرتين.
مرة يؤكد فيها السيد المسيح أنَّ تلميذ المسيح هو ذلك الشخص الذي يعيش وينادي بملكوت الله “وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله”، ولأجل ذلك الملكوت يُضحي بكثير من الأمور الهامة، فلا تقف حائلا دون دعوته ورسالته.
وأما المرة الثانية يتكلم فيه المسيح عن ضرورة الإصرار على كسب هذا الملكوت، فمن يضع نصب عينيه نيل هذا الملكوت عليه أن لا يلتفت للوراء لمغريات العالم ولا لما يشدّه للخلف، بل يديم النظر ويديم العمل نحو التطلع لهذا الملكوت السماوي الذي دعانا المسيح أن نسعى لأجله وننادي به ” من يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله”.
ولكن السؤال، كيف ننادي بهذا الملكوت؟ وكيف لنا أن نحيا به؟
ربما من النص الإنجيلي علينا أن نعي أولاً، أن إتباع المسيح يجب أن يكون منزَّها عن أية أهداف دنيوية أو مكاسب مادية أو أطماع مادية، بل أن يكون هذا الإتباع هو غاية بحّد ذاتها، والمسيح نفسه يكرم أبناءه لأنه هو يعرف قلوبهم ونياتهم ويعطي بسخاء للذي يحبونه أكثر بكثير مما بتفكرون به أو يتوقون إليه ” فما أحسن جودة الذي ذخرته لخائفيك وجعلته للمتكلين عليك”، فعندما يفتح الله يده يُشبع كلَّ ذي حي رضى، كما يقول المزمور. فما من أحد اتبع المسيح عن صدق وإخلاص وتسليم كامل لمشيئة الله إلا وباركه الله ببركات كبيرة لا تعّد ولا تحصى وبطرق لم تكن تخطر على البار “وكل من ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية (مت 29:19)، فمن يطلب ملكوت الله وبره يحصد بركات إلهية لا تقدّر بثمن.
وثانيا، عندما نعلن هذا الملكوت. فإعلان الملكوت ليس فقط بكلمات جميلة ومواعظ منمّقة بل أيضاً بسيرة حياة عطرة يقرأ منها الناس سيرة المسيح النقية الطاهرة ويشتمون منها رائحة المسيح الذكية، بمعنى آخر عندما نكون إنجيلا مفتوحاً يقرأ الناس من خلاله تعاليم المسيح في المحبة والتواضع والخدمة والعطاء والمسامحة والصدق والأمانة والوفاء والإخلاص. وهذا معناه أن نحيا حياة الروح فلا نكون أمواتاً بالروح بل أحيانا بالروح ونحن أحياء بالجسد. بخلاف ذلك فنحن نقول ونعلّم ما لا نحياه بحياتنا ونكون بذلك معاديين لتعاليم المسيح وناقضين لناموس العهد الجديد، فلا نصلح ليس فقط لإعلان الملكوت بل لا نصلح أيضاً لأن نكون من أبناء هذا الملكوت، بل نكون حجر عثرة في طريق الإيمان وطريق خلاص النفوس البشرية، ويقول المسيح “وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ (مت 6:18).
وثالثا، عندما نريد أن نتبع المسيح علينا أن نضع نصب أعيننا محراث الخدمة المقدسة، فتكون عيوننا موجه دائماً إلى صاحب الملكوت وهو يسوع المسيح ربنا، فلأجله يقول بولس الرسول، نُمات كل النهار، ولأجله نخسر كل الأِشياء، فمن أجله نخسر كل الأشياء لأنها ربح، وكما يقول الإنجيل المقدس، من أهلك حياته من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل فهذا يجدها.
نعم، من يفعل ذلك يجد الحياة الحقّة والحياة المليئة بالفرح ورضى القلب والطمأنية والسلام الداخلي. لذلك فإنّ إتباع المسيح والعمل لأجل ملكوته يتطلب منّا أمانة الخدمة والوفاء لها، فالمسيح علّمنا أن نخدم الآخرين قائلا: ” إن ابن الإنسان لم يأتِ ليخُدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين”. فالخدمة شرف ونعمة، إن حملناها، حملتنا وحملت الآخرين نحو ملكوت سماوي هو الأسمى وهو والأرفع وهو الدائم.
فلنسر مع المسيح في درب الخدمة وسنختبر عظم ملكوت الله اليوم في وسطنا وفي الدهر الآتي.