يُطالعنا الإنجيل في ذكر ما جرى مع الرب يسوع من تجارب، وهو عازمٌ على أداء الصوم الأربعيني في الشريعة اليهودية في الصحراء قبل البدء بالبشارة وهي الخلوة الروحية في لو 4 (1-13)، لو 23 (35-43).
في هذَين النصين حادثتَين يذكرهما إنجيل لوقا: الأولى محاولة الشيطان تجربة الرب يسوع والثانية حادثة صلب يسوع .
في غوصنا ببعدهما الروحي العميق، وما يترتب علينا فعله هو الدخول في كينونة الشعب العبراني في ذاك الزمان، كان المؤمن اليهودي دومًا عندما يريد أن يرتقي في الحياة الروحية يصعد إلى الجبل …… وهنا الرب يسوع أراد أن يعيش كينونة الإنسان بأكملها ما عدا الخطيئة.
انطلق إلى البريّة …… ماذا تعني البريّة في العهد القديم ….. تعني مأوى الوحوش، الظلام الكالح، الموت …… أراد الدخول إلى عمق الموت لينهض ساحقًا له بالقيامة ….. الدخول في الصحراء يعني الولوج في عمق الظلام الذي أمسى منارةً مع المسيح وبوابة للحياة مع الله.
هي صورة ثنائية الأبعاد بين الحادثتَين، حادثة صوم الصحراء وصلب المسيح …… تُذكّرنا هاتَين الحادثتَين بخروج الشعب العبراني من أرض العبودية، أرض مصر وكيف عانى المشقات في الصحراء وتحمّل العذابات والصليب للدخول إلى أرض الميعاد وإلى القيامة.
وهي وجه آخر لخروج آدم من الفردوس بسبب خطيئته وقد أراد المسيح أن يُدخله مجددًا وهو آدم الجديد. إذ كان لابدّ من هذه الفَشَخ في العبريّة أي العبور وهي نقلة نوعية.
يغوص القدّيس لوقا في إنجيله في سرد تفاصيل هذه المناجاة الحقيقية في الصحراء بين الأقنوم الثاني المسيح والله إذ لابدّ من المعاناة للوصول إلى نور البشارة وبدؤها في أورشليم …. يسرد الإنجيلي ويتحدّث عن التجربة الأولى الذي يُجرِّبها الشيطان للرب يسوع، وهي نفسها تجربة الحيّة لآدم وحواء بإغوائهما بأكل الثَمَرة، إذ قال الشيطان للرب يسوع بنفس اللغة، مُحاولةً منه لجعل آدم الجديد أيضًا متمرّدًا على الله القدوس خالق الأكوان.
“إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهَذَا الْحَجَرِ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى خُبْزٍ”. من كلمة الله ذاتها كان ردّ الرب يسوع: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله” وهي نفس الجملة الشهيرة من المزامير التي قالها الرب يسوع على الصليب: “إيلي إيلي لما شبقتني أي معناها إلهي إلهي لماذا تركتني” وهي آية من المزامير قالها عندما استهزأ به رؤساء الكهنة.
ثمّ أصعده إبليس إلى جبلٍ عالٍ، “أُعْطِيكَ السُّلْطَةَ عَلَى هذِهِ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا وَمَا فِيهَا مِنْ عَظَمَةٍ، فَإِنَّهَا قَدْ سُلِّمَتْ إِلَيَّ وَأَنَا أُعْطِيهَا لِمَنْ أَشَاءُ. 7 فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي، تَصِيرُ كُلُّهَا لَكَ!”. وهي لغة الشيطان أيضًا التي استُعملَت مع آدم إن أكلت من الثَمَرة ستُصبح كالله، تعرف كل شيء. هذا الصعود الوهمي الذي يبتغيه الشيطان للإنسان وهو ما رفضه الرب يسوع، هذا ما نجده في حادثة الصلب: “وَسَخِرَ مِنْهُ الْجُنُودُ أَيْضاً، فَكَانُوا يَتَقَدَّمُونَ إِلَيْهِ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلًّا، 37 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ» 38 وَكَانَتْ فَوْقَهُ لافِتَةٌ كُتِبَ فِيهَا: «هَذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ”. هي التجربة الثانية.
لكن؛ للرب يسوع رسالة في هذه الحياة هو إعادة الإنسان للألوهية، فأراد التواضع وانحنى ليرتفع بالقيامة ويُقيم الإنسان معه. ثمّ استعمل إبليس أسلوبه الخدّاع الذي أغوى آدم الأول وحواء الأولى باستعمال كلمة الله، فأتاه الرد قويًّا من كلمة الله. وهي تجربة يسوع الثالثة على الصليب من اللّص: “أَلَسْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ؟ إِذَنْ خَلِّصْ نَفْسَكَ وَخَلِّصْنَا!”.
يمرّ المؤمن المسيحي بحروب كثيرة مرهونة بمدى قربه من الرب الإله ولا مناص منها …. هذه الحروب الذي واجهها الآباء القديسون والنّساك والرهبان والراهبات بولوجهم في البريّة التي تحوّلت مع الرب إلى مكان فرح وخلوة تفوح منه رائحة القداسة بعدما كانت مكانًا وعلامةً للموت كالصليب، وقد استشهد الكثير منهم وكانت دمائهم طريقًا لبقاء المسيحية.