كثيرة هي المعالم الدينية والأثرية الموجودة في سوريا، فالدولة التي تحتضن أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ “دمشق”، وأقدم مدينة مأهولة في التاريخ “حلب”، تضم أيضاً عشرات المواقع الفريدة من نوعها على مستوى العالم. وإن كانت الحرب السورية قد أدت إلى تدمير بعض هذه الأماكن أو غيّبت بعضاً آخر، فإن الشواهد على الحضارة السورية الضاربة في التاريخ لا تزال كثيرة وتحافظ على أصالتها وعبقها وانتشارها في مختلف المحافظات السورية.
أحد الشواهد التاريخية على الحضارة السورية كنيسة “مار تقلا” في مدينة اللاذقية على الساحل السوري، والتي تعدّ أصغر الكنائس في سوريا، وتمتلك خصوصية فريدة بأنها موجود تحت الأرض وتضم في داخلها مغارة صغيرة، كانت ملجأً للقديسة “تقلا” التي حملت المسيحية في قلبها من تركيا إلى سوريا، متحدية أهلها وأقرباءها بنقل أفكارها ورسالتها إلى العالم.
منذ اللحظة الأولى التي تقع عينك على الباب الرئيسي لكنيسة “مار تقلا” سيحضر في ذهنك تاريخ عمره آلاف السنين، فالدرج الحجري المؤدي إلى الكنيسة الموجودة تحت الأرض، ومعالم المدافن الرومانية، والغرف الصغيرة المخصصة لوضع قناديل الزيت للإنارة والنذر والقرابين الجنائزية، والمغارة الصغيرة الموجودة ضمن الكنيسة، كلها شواهد تحكي تاريخ هذا المكان وخصوصيته الفريدة.
عند الوصول إلى الكنيسة تطغى رائحة البخور على المكان، بينما تسرقك الأضواء المتلألئة والشموع المعلّقة على الجدران إلى مكانٍ آخر، من دون إغفال الآثار التاريخية الموجودة في قلب المغارة. حيث تظهر آثارٌ لانحناءة هيكل قديم، وجرن معمودية يبدو بشكل واضح في الحوض الذي تتجمع فيه المياه الراشحة من سقف المغارة، وتقول الروايات إن المياه معجزة خاصّة بالقديسة “تقلا”، كانت تشرب منها أثناء اختبائها داخل المغارة، وما زالت المياه تقطر من السقف إلى اليوم.
من تركيا إلى اللاذقية
في القرن الأول الميلادي، كانت “تقلا” تعيش في مدينة “ايكونيا”، الموجودة حالياً شمال أنطاكيا في تركيا، عندما بدأت الحملات التبشيرية في المنطقة من قبل بولوس الرسول، حيث استمعت “تقلا” أكثر من مرة إلى مواعظه وكلامه عن السيد المسيح، فآمنت به وأصبحت تلميذته في ما بعد. لكن هذا الأمر عرّضها لاضطهاد كبير من جانب عائلتها الوثنية، ما أجبرها على الهرب إلى الساحل السوري، والاختباء داخل مغارة صغيرة تحت الأرض في مدينة اللاذقية.
ومن المعروف أن المسيحيين في تلك الحقبة الزمنية كانوا يحتمون داخل مخابئ أو في المقابر أو حتى في الكهوف خوفاً من الاعتراف بما يؤمنون به، لأن عقوبة المجاهرة بالمسيحية هي الموت حتماً، وهذا ما يفسّر انتشار “الدلاميس” أو “الكتاكومب” في جبال اللاذقية وحمص وسط سوريا وحتى في روما عاصمة إيطاليا. و”الدلاميس” تعني المدافن تحت الأرض، حيث كان المسيحيون يجتمعون داخلها من أجل إقامة الصلوات والشعائر الدينية والتعليم، ومن أجل دفن موتاهم أيضاً، وتؤكد الكتب الدينية أن المسيحية دخلت إلى مدينة اللاذقية في القرن الأول عن طريق “لوقيوس”، وهو أيضاً تلميذ بولوس الرسول، ليكون الأول لاحقاً أول أسقف لمدينة اللاذقية.
سرعان ما انتشرت الديانة المسيحية في القرون الأولى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والإمبراطورية الرومانية أيضاً، رغم الاضطهاد الذي كان يمارسه أباطرة روما ضد المسيحيين، واستمر ذلك إلى أن تحوّلت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية.
في تلك الحقبة، كان لسوريا أهمية كبيرة في انتشار المسيحية، وهذا ما يؤكده وجود عدد كبير من الأماكن الدينية المقدسة، والتي تم اكتشافها في العصر الحديث وتعود إلى القرون الأولى. كما أعطت الكنائس في سوريا علامة مميزة في تاريخ العمارة المسيحية، ما يدل على نهضة معمارية حدثت من قبل المعماريين السوريين في القرنين الخامس والسادس الميلاديين تحديداً.
الأب سبيردون فياض، راعي كنيسة “تقلا” في اللاذقية، قال لــ “الميادين الثقافية” إن: “القديسة تقلا بقيت في المغارة لمدة سنتين، بعد أن جاءت من تركيا هرباً من اضطهاد عائلتها التي أرادت قتلها، وهذا ما كان يحدث مع كل من يجاهر بالمسيحية في تلك الفترة”.
وأشار فياض إلى أن القديسة تقلا “انتقلت بعد ذلك إلى منطقة معلولا بريف العاصمة دمشق، حيث أكملت بقية حياتها هناك”.
وتحدث فياض عن الأثر الكبير الذي تعنيه الكنيسة والمغارة الصغيرة الموجودة داخلها، حيث شكّلت بطبيعتها حالة فريدة على مستوى الأماكن الدينية، ولذلك حظيت بشعبية كبيرة، وباتت مقصداً للسيّاح والزائرين، ليس فقط من أبناء الدين المسيحي، وإنما من مختلف أطياف الشعب السوري.
مصادفة تقود إلى اكتشاف الكنيسة
بقيت كنيسة ومغارة القديسة “تقلا” لمئات السنين مدفونة تحت الأرض من دون أن يصلها بشر، قبل أن تقود المصادفة بعض المزارعين في العام 1849 أثناء حفرهم في البساتين إلى العثور على المغارة، وكان طولها 8 أذرع فقط، ورسمت على جدرانها الأربعة صور نافرة بعضها لرؤوس بشرية وأخرى لحيوانات، وفي إحدى الزوايا عُثر على سُروج كثيرة من الخزف ما يدل على أن هذا المكان كان كنيسة في الماضي، وفق ما أكده المهندس إبراهيم خير بك، مدير آثار اللاذقية لــ “الميادين الثقافية”.
ويضيف مدير الآثار أنه في تلك الفترة عُثر أيضاً على مدفن عائلي يعود إلى الفترة الرومانية، ضم معالم كنيسة غير مكتملة حفرت وسط بهو المدفن، وهي صغيرة الحجم أبعادها: عمق 260 سم وطول 240 سم وعرض 150 سم، ويؤدي إليها درج محفور بالصخر مؤلف من 9 درجات، وفي جدارها الشمالي هيكل، وعند أسفل جدارها الشرقي توجد معالم لبركة دائرية الشكل معمرة بمدماك من الحجارة الصغيرة، وسطحها مغطى بــ 5 ألواح حجرية مستطيلة الشكل غير مشذبة، طول الواحدة متر تقريباً وعرضها نصف متر.
بعد عمليات الحفر والتنقيب تبيّن أن المغارة عبارة عن غرفة واسعة محفورة بالصخر وهي أشبه بالقبور التي كانت تستعمل في قرون المسيحية الأولى للاجتماعات الدينية أو للاختباء بعيداً عن الأنظار، لكن المغارة بقيت مهملة بشكل عام حتى عام 1943 عندما تألفت لجنة من المهتمين بالتراث للقيام بأعمال التنظيم وإزالة الردم حتى يتم إعادة تأهيل المكان بشكل كامل.
في العام 1967 تحوّلت الكنيسة إلى ملجأ أثناء الحرب مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن بعد ذلك تم ردم المغارة لسنوات عديدة، قبل أن تعود الأبحاث في تسعينيات القرن الماضي للبحث عن الكنيسة والمغارة الموجودة بداخلها، حيث تعاون الجانبان الأهلي والحكومي لترميم الموقع وإنشاء كنيسة صغيرة تحافظ على الروح الأثرية للمكان، ومع حلول العام 2008 فتحت الكنيسة أبوابها وباتت مقصداً للسيّاح من داخل سوريا اوخارجها.
كما تم تسجيل الكنيسة ضمن السجل الوطني لوزارة الثقافة السورية، وأصبحت ضمن المواقع الأثرية المسجلة على التراث الوطني السوري، كونها تعبّر عن مهد الديانة المسيحية في المنطقة برمتها.