البابا : روما هي مدينة عالميّة وفريدة


“لتستمر روما في إظهار وجهها الحقيقي، وجه ترحيبي ومضياف وسخي ونبيل” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته خلال زيارته إلى مقرِّ بلديّة روما.


قام قداسة البابا فرنسيس صباح الاثنين بزيارة إلى مقرِّ بلديّة روما حيث التقى برئيس البلدية وبأعضاء مجلس ومستشاري البلدية وممثلين للحكومة، وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها إذ أعود لزيارتكم، أشعر بمشاعر الامتنان والفرح. آتي للقائكم، ومن خلالكم، للقاء المدينة بأكملها، التي تحمل منذ ولادتها تقريبًا، أي لألفين وثمانمائة سنة خلت، دعوة واضحة ومستمرة للعالمية. بالنسبة للمؤمنين المسيحيين، لم يكن هذا الدور نتيجة الصدفة، وإنما كان يتوافق مع مخطط العناية الإلهية.

تابع البابا فرنسيس يقول لقد أصبحت روما القديمة، بفضل تطورها القانوني وقدراتها التنظيمية، وبناء مؤسساتها المتينة والدائمة على مر القرون، منارة تلجأ إليها العديد من الشعوب للتمتع بالاستقرار والأمن. وقد مكنتها هذه العملية من أن تكون مركزاً حضارياً مشعاً، وأن تستقبل الأشخاص من جميع أنحاء العالم وتدمجهم في حياتها المدنية والاجتماعية، لدرجة أن عدداً كبيرًا منهم قد شغل أعلى مناصب حاكميّة الدولة. ومن ناحية أخرى، كانت هذه الثقافة الرومانية القديمة، التي شهدت بلا شك العديد من القيم الطيبة، بحاجة إلى أن ترتقي وتتواجه مع رسالة أكبر للأخوة والمحبة والرجاء والتحرر. إن طموح تلك الحضارة، بعد أن بلغت ذروة ازدهارها، يقدم تفسيرا إضافيا للانتشار السريع للرسالة المسيحية في المجتمع الروماني. إن شهادة الشهداء الساطعة وديناميكية المحبة لدى جماعات المؤمنين الأولى قد واجهت الحاجة إلى الاصغاء إلى كلمات جديدة، كلمات حياة أبدية: لم يعد الأوليمبوس كافيًا، بل كان من الضروري الذهاب إلى الجلجلة وإلى القبر الفارغ للقائم من بين الأموات للعثور على الإجابات للتوق إلى الحقيقة والعدالة والمحبة.


أضاف الأب الأقدس يقول هذه البشرى السارة، أي الإيمان المسيحي، قد طبعت مع مرور الوقت وغيرت حياة الأشخاص والمؤسسات نفسها. وقدمت للأشخاص رجاء أكثر جذرية وغير مسبوق؛ وللمؤسسات إمكانية التطور إلى مرحلة أعلى، وتخلّت تدريجيًا – على سبيل المثال – عن مؤسسة مثل مؤسسة العبودية، التي بدت حتى للعديد من العقول المثقفة والقلوب الحساسة وكأنها حقيقة طبيعية ومسلَّم بها، ولا يمكن إلغاؤها على الإطلاق. إن مثال العبودية هو مثال مهم جدًّا لحقيقة أنه حتى الحضارات الراقية يمكنها أن تقدم عناصر ثقافية متجذرة في ذهنية الأشخاص والمجتمع بأكمله لدرجة أنه لم يعد يُنظر إليها على أنها تتعارض مع كرامة الشخص البشري. واقع يحدث اليوم أيضًا، عندما نجازف أحيانًا، وبدون وعي تقريبًا، بأن نكون انتقائيين وتحيزين في الدفاع عن الكرامة البشرية، من خلال تهميش أو استبعاد فئات معينة من الأشخاص، الذين ينتهي بهم الأمر بأن يجدوا أنفسهم دون حماية ملائمة.

تابع الحبر الأعظم يقول خلَفت روما القياصرة – إذا جاز التعبير – روما الباباوات، خلفاء الرسول بطرس، الذين “يرأسون بالمحبة” الكنيسة بأسرها والذين كان عليهم أيضًا، في بعض القرون، أن يلعبوا دورًا بديلاً للقوى المدنية في التفكك التدريجي للعالم القديم. لقد تغيرت أشياء كثيرة، ولكن تم تأكيد وتمجيد دعوة روما إلى العالمية. فإذا كان قلب الأفق الجغرافي للإمبراطورية الرومانية في الواقع، يقع في قلب عالم البحر الأبيض المتوسط، وعلى الرغم من اتساعه، لم يشرك العالم كله، فإن رسالة الكنيسة ليس لها حدود على هذه الأرض، لأنه عليها أن تُعرِّف جميع الشعوب على المسيح وعلى عمله وكلماته، كلمات الخلاص. وانطلاقاً من توحيد إيطاليا، بدأت مرحلة جديدة، تمّ الوصول فيها، بعد الصراعات وسوء التفاهم مع الدولة الوحدوية الجديدة، في إطار ما سمي بـ”المسألة الرومانية”، لخمسة وتسعين سنة خلت، إلى التوفيق بين السلطة المدنية والكرسي الرسولي. وهذا العام هو العام الأربعين منذ مراجعة الميثاق الذي أعاد التأكيد أن الدولة الإيطالية والكنيسة الكاثوليكية، “كل منهما مستقل وذو سيادة، في نظامه الخاص، ويلتزمان بالاحترام الكامل لهذا المبدأ في علاقاتهما وبالتعاون المتبادل من أجل تعزيز الإنسان وخير البلاد”.


أضاف الأب الأقدس يقول لقد أثبتت روما نفسها دائمًا، حتى في هذه المراحل التاريخية الأخيرة، في دعوتها العالمية، كما تشهد أيضًا أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والسنوات المقدسة المختلفة التي تمّ الاحتفال بها، والتوقيع على معاهدة إنشاء الجماعة الاقتصادية الأوروبية، وكذلك للمعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية، والألعاب الأولمبية عام ١٩٦٠، والمنظمات الدولية، ولاسيما منظمة الأغذية والزراعة، التي مقرها الرئيسي في روما. والآن تستعد روما لاستضافة يوبيل عام ٢٠٢٥. وهذا الحدث هو ذو طابع ديني، وحج صلاة وتوبة لكي ننال من الرحمة الإلهية مصالحة أكمل مع الرب. ومع ذلك، لا يمكن لهذا الحدث إلا أن يُشرك المدينة أيضًا من حيث الاهتمامات والأعمال الضرورية لاستقبال العديد من الحجاج الذين سيزورونها، بالإضافة إلى السياح الذين يأتون للتمتُّع بكنزها الهائل من الأعمال الفنية وآثار القرون الماضية. روما هي فريدة ولذلك فإن اليوبيل القادم سيكون له أيضًا تأثير إيجابي على وجه المدينة، إذ سيُجملها ويجعل الخدمات العامة أكثر فعاليّة، ليس فقط في وسط المدينة وإنما من خلال تعزيز القرب بين وسط المدينة والضواحي.

تابع الحبر الأعظم يقول لا يمكننا أن نتصور أن هذا كله يمكنه أن يتم بطريقة منظمة وآمنة بدون التعاون الفاعل والسخي لسلطات البلدية والسلطات الوطنية. وفي هذا الصدد، أشكر السلطات البلدية على التزامها بإعداد روما لاستقبال حجاج اليوبيل القادم، والحكومة الإيطالية على استعدادها الكامل للتعاون مع السلطات الكنسية لإنجاح اليوبيل، مؤكدا الرغبة في التعاون الودي الذي يميز العلاقات المتبادلة بين إيطاليا والكرسي الرسولي. روما، هي مدينة ذات روح عالمية. وتريد هذه الروح أن تكون في خدمة المحبة، في خدمة الاستقبال والضيافة. ليكن الحجاج، والسياح، والمهاجرون، والذين يعيشون في صعوبات خطيرة، والفقراء، والأشخاص الوحيدين، والمرضى، والسجناء والمهمشون، الشهود الأكثر صدقًا لهذه الروح. وليشهدوا أن السلطة تكون كذلك عندما تضع نفسها في خدمة الجميع وعندما تستخدم سلطتها الشرعية لتلبية احتياجات المواطنين، ولاسيما الأشخاص الأشدّ ضعفًا والأخيرين.

أضاف الأب الأقدس يقول لتستمر روما في إظهار وجهها الحقيقي، وجه ترحيبي ومضياف وسخي ونبيل. إن التدفق الهائل للحجاج والسياح والمهاجرين إلى المدينة، بكل ما يعنيه ذلك من حيث التنظيم، يمكنه أن يُعتبر عبئًا يبطئ ويعيق المسيرة الطبيعية للأمور. هذا كله في الواقع، هو روما، خصوصيتها الفريدة في العالم، وكرامتها، وجاذبيتها الكبيرة ومسؤوليتها تجاه إيطاليا، وتجاه الكنيسة، وتجاه العائلة البشرية. وكل مشكلة من مشاكلها هي “الوجه الآخر” لعظمتها، ومن عامل أزمة يمكنها أن تصبح فرصة للتنمية: المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إن الكنز الهائل للثقافة والتاريخ الذي يقع على تلال روما هو شرف وعبء مواطنيها وحكامها، وينتظر أن يحظى بالتقدير والاحترام المناسبين. ليولد مجدّدًا في الجميع الوعي بقيمة روما، وبالرمز الذي تمثله في جميع القارات؛ ولتتثبّت لا بل لتنمو في التعاون الفعال المتبادل بين جميع القوى التي تقيم فيها، من أجل عمل جماعي ومستمر، يجعلها أكثر استحقاقًا للدور الذي حفظه لها القدر، لا بل العناية الإلهية.

وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول لعقود من الزمن، منذ أن كنت كاهنًا شابًا، كان لدي تعبّد خاص للطوباوية مريم العذراء، “Salus Populi Romani”، وفي كل مرة كنت أزور فيها روما كنت أذهب إليها. ولذلك أسألها هي التي تسهر على مدينة روما وشعبها، أن تبعث الرجاء وتلهم المحبة، لكي وإذ تثبّت تقاليدها النبيلة، تستمر في كونها حتى في زمننا منارة حضارة ومعزِّزة سلام.