في أحد الثالوث الأقدس تُذكرنا الكنيسة بجوهر إيماننا المسيحي بوحدانية الله الذي له وحده يجوز السجود والإكرام ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”، وهذا الإله الحّي موجود بذاته منذ الأزل، وناطق بكلمته وحيّ بروحه.
فطبيعة الذات الإلهية أزلية الوجود وخالقة لهذا الكون بكل تفاصيله وروعته، مما يجعلها تتسم بطابع الأبوة والأصل لكل شيء، وطبيعة هذه الذات الإلهية أنها قادرة على التعبير عن ذاتها، فلله كلمة ناطقة بطرق وأشكال مختلفة، تعكس قلب أبوّة الله لكل الأشياء، وإرادته الصالحة، وشريعته السماوية. وكذلك فطبيعة الذات الإلهية واهبة للحياة وتجلياتها، فلا يمكن أن يكون هناك حياة من غير روح الله الواهب الحياة.
فحياتنا بدون نَسَمَة وهبّةِ الروح القدس هي حياة ميته وعقيمة، وهذا هو مفهوم الموت الروحي وهو أخطر بكثير من الموت الجسدي. وما نحن مدعوون له هو أن نحيا حياة الروح لا حياة الجسد، والجسد هنا ليس بمفهوم اللحم والدم، بل الجسد هنا بمفهوم الحياة الجسدية المعادية لحياة الروح ولمبادئ الروح ولقيم الروح. يقول السيد المسيح ” المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح روح هو”. لذلك لا يكفي أن نكون مولودين بطبيعتنا البشرية لأنها طبيعة تميل إلى الشر والإنانية والبغضاء والكبرياء والإنتقام وحب الذات والشهوة، وتحتاج أن تتقدس بروح الله القدوس، وهذا لا يمكن أن يكون من غير أن تغمرَ حياتُنا قوة ونعمة الروح القدس، وهو ما أشار إليه السيد المسيح في حديثه مع الفريسي نيقوديموس أحد رؤساء اليهود، وهذا هو معنى الولادة الثانية أو الولادة من فوق، فمن غير هذا الولادة الثانية لا يمكن أن نرى ملكوت السموات أو أن ندخله.
بمعنى آخر لا يمكن أن نحيا في ملكوت الله بدون أن نولد من الروح القدس، وهذا هي معنى الولادة الروحية بالماء والروح القدس. فبمعموديتنا المقدسة نحن نتقدس بداخلنا، فنسمح بذلك لقوة عمل الروح القدس أن يعمل فينا، فنقدر أن نقاوم الشرير وشهوات الجسد وجموحه وأن نحيا حياتنا الأرضية حياةً روحية تسمح لنا بشركة مقدسة مع الله وشركة نقية طاهرة مقدسة مع إخوتنا في الإيمان، منعكسة على حياتنا في مجتمعاتنا لتكون مكرسة في خدمة الجميع بنور المحبة والحق الإلهي وإرساء مبادئ الكرامة الإنسانية التي أرادها الله أن تسود منذ بدء الخليقة وكذلك العدل والمساواة بين جميع البشر.
عمل الروح القدس فينا هو عمل إلهي قد لا نسبر غوره، لكننا نثق بعمل روح الله القدوس بأنه يخلق فينا إنساننا الجديد وينمّي بداخلنا بذور حياة الروح وحياة الإيمان التي تسير وفق التعاليم والشرائع الإلهية، وبذلك تصبح حياتنا حياةً جهادٍ روحي بمعونة الروح القدس، فلا تقدر لا تجارب إبليس ولا شهوات العالم ولا بريق مادته أن يسرق منّا إنسانيتنا وضميرنا ومبادئنا ورسالتنا السماوية.
بلادنا المقدسة تقدست بكل بقعة منها، ومنها انتشر عبق القداسة للعالم أجمع، وما يحتاج إليه العالم هو التقديس وحياة القداسة التي بدونها لن نقدر أن نرى الله ولا أن ندخل إليه. فلنفتح قلوبنا وعقولنا لعمل الروح القدس فينا فينقينا بنوره وناره، فنستنيرَ وتذُوبَ من دواخلنا كلَّ الشوائب التي تشدّنا للعالم البعيد عن عالم الروح، فنحيا حياةُ تفيضُ فرحاً وسعادةً ورضى ومحبة.