الأحد الثامن من زمن العنصرة ؛ عيد مار شربل
(روما 8: 1-11متى 12: 14-21)
“قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَنْ يَكْسِر، وفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لَنْ يُطْفِئ، إِلى أَنْ يَصِلَ بِالحَقِّ إِلى النَّصْر. وبِٱسْمِهِ تَجْعَلُ الأُمَمُ رَجَاءَها” (12: 20).
متى العشار اليهودي، الخاطئ المنبوذ من شعبه وبخاصة من الفريسيين لتعاونه مع العدو، تغيّرت حياته بدعوة حبّ مجانيّ من يسوع، لمست أعماقه المشتاقة لخلاص الله. لأن ما من خاطئ على الأرض، وقد اختبر مأساة الخطيئة المدّمرة لإنسانيته والمحبطة لأحلامه بالسعادة، لا يتوق إلى التحرّر من حالة الخطيئة، والعودة إلى حالة البنوّة لله.
متى الإنجيلي هذا الّذي اختبر التناقض العميق بين نظرة الفريسيين له كخاطئ محكوم عليه بالموت، ونظرة يسوع له كخاطئ محبوب ومغفورٌ له، ينقل إلينا طوال إنجيله مواقف الفريسيين المعادي ليسوع، النابع من غيرتهم وحسدهم منه، كما ومن عدم قبولهم له كمسيح لا يحقّق انتظاراتهم البشريّة: ” وخَرَجَ الفَرِّيسِيُّونَ فَتَشَاوَرُوا عَلَى يَسُوعَ لِيُهْلِكُوه” (متى 12: 14).
حسد الفريسيون يسوع على تقدير ومحبّة واتباع الشعب له، وهي أمورٌ لطالما تمنّوها لأنفسهم. ولأن الحسد رذيلة أساسيّة، إذا ما تملّكت على قلب الإنسان، توّلد فيه “البغض والنميمة والافتراء على القريب، والفرح إذا ما أصابه مكروه، والحزن إذا ما حقق نجاحًا وازدهارًا” (القديس غريغوريوس الكبير، أخلاقيات في أيوب، 31، 45، 88)، وقد تقوده كما قادت الفريسيين في موقفهم من يسوع إلى العمل على قتل من يّحسد. ولنسأل أنفسنا، أليس الحسد والغيرة هما في أساس الكثير من الخلافات والصراعات والنميمة والانتقامات في عائلاتنا وضيعنا ورعايانا ووطننا؟! فحذار أن نترك الحسد يعشعش في قلوبنا لأنه سيحرمنا من تقدير عظمة ما أعطينا من الله من عطايا ومواهب، تكفينا لنعيش اللحظة الحاضرة بفرح، وهذا ما نسميّه القناعة.
وعادى الفريسيون يسوع لأنه في مواقفه وتعليمه وعلاقاته، بخاصة مع العشارين والخطأة، لا يتوافق مع صورة المسيح الّذي ينتظرونه. هم ينتظرون مسيحًا يحمل “فأسًا على أصول الشّجر، فكلّ شجرة لا تثمر ثمرًا طيّبًا تقطع وتُلقى في نار” (متى 3: 10)، كما هدّد يوحنا المعمدان، الخاطئين غير التائبين؛ وكما ينتظر كثير من المؤمنين من الله أن يفعل بالفاسدين. أمّا يسوع فظهر في علاقاته ومواقفه من الخاطئين مُحبًّا، ورؤوفًا ورحيمًا ” “قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَنْ يَكْسِر، وفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لَنْ يُطْفِئ” (12: 20)، مراهنًا بذلك على توبة الخاطئين إذا ما تجاوبوا مع مبادرة حبّه، لأنه يعرف جبلة الإنسان الطيّبة، الإنسان المجبول بحبّ، ليُحبّ إذا ما أُحبّ، ويعرف أن الخطيئة لا يمكنها أن تلغي صورة الله هذه المطبوعة في كيانه، ولأنه يريد حياة الخاطئ لا موته، خلاصه لا هلاكه. لهذا، كما يقول لنا مار بولس في الرسالة إلى أهل روما التي سمعناها من يسكن فيهم روح الله الّذي أقام يسوع من بين الأموات يسلكون مثل يسوع في مواقفه من القريب وبخاصة من الخاطئ. ومن فيهم روح العالم، يسلكون بحسب الجسد، ويكونون مثل الفريسيين في موقفهم من الخاطئ: ” أَمَّا أَنْتُم فَلَسْتُم أُنَاسًا جَسَدِييِّنَ بَلْ رُوحِيُّون، إِنْ كَانَ حقًّا رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فيكُم. وَلكِنْ مَنْ لَيْسَ لَهُ رُوحُ المَسِيح، لَيْسَ هُوَ لِلمَسِيح”.
ولنا في مار شربل الّذي نعيد اليوم عيده، مثالًا لنا فيما يستطيع الإنسان الروحانيّ، أي الإنسان الّذي يترك روح الله يسكن فيه ويقوده بإلهاماته في مسيرة التلمذة ليسوع حتى يستولي عليه، فيما يستطيع ان يصل إليه من الحبّ والصفاء والعذوبة والرأفة والرحمة، كما نراهم في تأملنا وجه شربل، وفيما يصل إليه من القدرة والمجد، كما نراهم في عجائب مار شربل وتجلّي قداسته على مذابح العالم.
لنصلّي بشفاعة مار شربل إلى الله أن يحرّرنا من كل حسد وغيرة ويؤصلّنا في المحبّة التي ترأف وترفق وترحم بالذات وبالقريب، لنمتلئ من روح المسيح، ونكون للمسيح مثلما كان. آمين.