تأمل غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا

الأحد السابع عشر من الزمن العادي ب

(يوحنا 6 : 1-15)

استمعنا خلال أيام الآحاد من السنة ”ب“ إلى إنجيل مرقس. دعونا الآن نركز لبضعة أسابيع على الفصل السادس من إنجيل يوحنا، المعروف أيضًا باسم الفصح وخبز الحياة.

إن المقطع الذي استمعنا إليه للتو مليء بالإشارات والرموز، ويدعونا إلى التوقف والتأمل بعمق لفهم الرسالة الجوهرية للنص.

يكمن مفتاح فهم النص في الإشارة الأولى، التي تتأصل في الخروج والفصح. فكما تبع شعب إسرائيل موسى، مُرسَل الرب، من العبودية ليصبحوا شعب الله، هكذا تبع جمعٌ كبيرٌ يسوعَ (يوحنا 6: 1).

تؤكد الآية الرابعة أن الفصح هو محور هذا الحدث: ”وكانَ قدِ اقتَرَبَ الفِصحُ، عيدُ اليَهود“ (يوحنا 6: 4).

أما الإشارة الثانية المهمة فتشير إلى الجبل (يوحنا 6: 3)، وهي مرتبطة بالخروج. أثناء رحلة الشعب عبر الصحراء، وصلوا إلى جبل سيناء، حيث قطع الله معهم عهدًا أبديًا.

تتمثّل الإشارة الثالثة في العشب. قد يبدو ذلك للوهلة الأولى تفصيلاً غير مهم في المقطع: هل يشكّل وجود العشب أو عدمه أهمية بالفعل؟ على النقيض من الرموز التي تحمل دلالات هامة كالجبل والخبز، ما هي الأهمية الكامنة وراء ذِكر العشب؟
يشير العشب إلى عدة مقاطع في العهد القديم مشيرة إلى كثرة الطعام والمياه. حيث تكون المراعي خصبة، تكون الحياة وفيرة. فالله يرشد إلى هناك لأنه الراعي الصالح الذي يقود قطيعه إلى تلك المراعي الخضراء (راجع المزمور 23).

أما الرمز المحوري فهو الخبز. خلال مسيرة الخروج، طُرح السؤال حول من سيوفر القوت لجميع الشعب في الصحراء؟

وكان الله قد أعطى المنّ ليعلم الشعب أنه يُديم الحياة ولا يغفل عن ذلك أبدًا. أما في مقطع اليوم، لم يكن هناك خبزًا وكان الجمع غفيرًا وجائعًا، ولذلك سأل يسوع التلاميذ من أين يمكنهم شراء الخبز لإطعام جميع هؤلاء الناس (يوحنا 6: 5).

تمامًا كما في الصحراء، سيوفر الرب مرة أخرى الخبز للشعب خلال مسيرتهم. لكن هناك اختلاف جوهري. ففي الصحراء، كان الخبز هو المنّ الذي نزل من السماء وكان يُعطى دون مقابل كل يوم. ولم يكن على الشعب سوى أن يجمعوه ويأخذوا منه فقط ما يكفي ليومهم، واضعين ثقتهم في الله أبيهم الذي يقوتهم.

أما في هذا المقطع، لم ينزل الخبز من السماء، بل كان تقدمة متواضعة من صبي لا يملك إلا القليل (يوحنا 6: 7)، اختار أن يتقاسمه مع الجميع. وعلى الرغم من أن كمية الخبز كانت قليلة جدًا بحيث لا تكفي لإطعام الجميع، إلا أنها كانت في غاية الضرورة.

الخبز الذي يقدمه يسوع للجموع يجسد جوهر المشاركة والأخوة، وهو رمز الوحدة والشراكة بين أبناء الله.

لا يمكن شراء هذا الخبز (يوحنا 6: 7)، فلا ثروة تضاهي قيمته. إنه يُنال بالإيمان، عندما يسلّم المرء كل ما يملكه ويقتنيه بين يدي الرب، مؤمنًا بقدرته على مضاعفة عطاياه. من خلال هذا الإيمان، يصبح كل عمل متواضع من أعمال المحبة وفيرًا، يكفي لسد حاجات الاخرين.

هناك فعل آخر جدير بالاهتمام، وهو فعل ”جَلسَ“. يتكرّر هذا الفعل مرتين في الآية 10، وهو محوري لأنه يكشف المعنى الحقيقي للمقطع، وهو الإفخارستيا. تعود هذه الأهمية لسببين:

السبب الأول هو أن هذا الفعل يدلّ على الجلوس على مائدة، وتحديدًا لحضور وليمة. وبالتالي، فإن هذا الاجتماع يرمز إلى جميع المدعوين للمشاركة في وليمة الملكوت العظيمة التي يمدّها الله لجميع الشعوب على الجبل العالي (راجع أَشَعْيا 25: 6-10). 

كما أن هذا الفعل يوازي الفعل الذي استخدمه الإنجيلي يوحنا في حادثة العشاء الأخير (يوحنا 13: 25)، حيث يصف اتّكاء يوحنا على صدر يسوع.

إن لفتة المحبة التي قام بها ذلك الصبي تمهّد لبادرة محبة أخرى، وهي حينما أخذ يسوع جسده بين يديه، شكر الآب وكسره، فبذل نفسه من أجل العالم. 

لقد أوكل الله تلاميذه هذا السرّ المقدس ليشاركوه مع البشر أجمعين، كما تحدثنا عنه في العظة قبل أسبوعين.

وذلك لأن الجمع غفيرٌ ومتعطش للحياة على الدوام.

+بييرباتيستا