الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة بقلم الخوري شوقي كرم

نورسات

كما اعتدنا على يسوع المسيح في عمله الرسوليّ، يستفيد من أحداث الحياة ليعلّمنا أصول الحياة الحقّة، ويهدينا بكلمته إلى طريق الحقّ الذي وحده يُحرّر. لهذا انطلق من هذين الموقفين المتباينين لشخصين أحباه مرتا ومريم، ليحسم أمرًا لطالما قسم بين المؤمنين دائمًا إلى فريقين: ماذا يأتي أولاً في حياة أصدقاء يسوع الذي يؤمنون به ويحبّونه ويستضيفونه في بيوتهم: شريعة أعمال المحبّة والرحمة أم شريعة الصلاة والتأمل بكلمة الله؟ ألا يعوّض العمل الصالح وأعمال الرحمة التي أعيشها كلّ يوم، وبها أتمّم مشيئة الله وأمجدّه، عن الصلاة والقداس والتأمل في كلمة الله ومتابعة تعليم الكنيسة؟
بجوابه على عتاب مرتا يحسم يسوع موضوع الصراع والقسمة هذا نهائيًّا: “مرتا مرتا أنت مهتمة بأمور كثيرة والمطلوب واحد… مريم اختارت النصيب الأفضل ولن ينزع منها”. بما معناه، شريعة الصلاة والتأمل في كلمة الله تأتي قبل شريعة العمل بمحبّة للآخرين؛ العلاقة الشخصيّة مع الله، وما تتطلب من تخصيص وقتٍ يوميّ للجلوس على قدميه ومتابعة مسيرة التتلمذ له، تأتي قبل أعمال الرحمة محبّةً بالقريب مهما عَظُم شأنها؛ محبّة الله تأتي قبل محبّة القريب: “أحبب الله بكل قلبك وكلّ نفسك… وأحبب قريبك حُبّك لنفسك”
ونسأل أنفسنا لماذا كان يسوع هكذا جازمًا ومطلقًا في هذا الأمر؟ لماذا طلب إلينا أن نكون أولاً مثل مريم وثانيًا مثل مرتا؟
في الواقع نجد الجواب في حياة يسوع نفسه، المدعوون إلى لتشبه والاقتداء به كتلاميذ أحبّاء. فيسوع قبل أيّ عمل رسوليّ كان يقوم به، كان يختلي بأبيه ويصلّي له ساعات طوال. وكم من مرّة ترك الجموع المحتاجة له، وذهب إلى الجبل أو الصحراء ليصوم ويصلّي سائلاً ومفتشًا عن إدراك إرادة أبيه ليعمل بها، أي لتكون في أساس تفكيره ونظرته ورؤياه وتصرفاته مع ذاته والآخرين ؟!
نعم يشير يسوع علينا بأن نكون مريم أولاً ومرتا ثانية، لأنه يريد أن يجنبنا الوقوع في التجربة الأخطر في حياتنا كأصدقاء أحباء مؤمنين به، أن ننطلق من ذواتنا في تجسيد وصيّة المحبّة للقريب والمحتاج التي بها نعبّر عن محبتنا له، لأننا سنفصّل هذه المحبّة على قياسنا وسنعيشها على قدر طاقاتنا المحدودة، بقولنا: نعم أنا أحب القريب وأخدمه. وفي الواقع نكون نُحبّه ونخدمه بحسب ما نرى ونريد نحن، ونحن محدودين وناقصين. بينما يريدنا يسوع أن نكون مريم ونتابع الإصغاء له لنأخذ منه الحكمة ونتعلّم الطريق الصحيح لمحبّة القريب، وأن نأتي للقائه في الأسرار لنأخذ منه القوة والقدرة لتحقيق متطلبات هذه المحبّة التي تفوق العدل البشريّ: أحبّوا أعداءكم؛ أحسنوا إلى المسيئين إليكم؛ تصدّقوا مما لكم وليس مما يفيض عليكم…
فليسأل كلّ واحدٍ منا نفسه عن سلّم الأولويات في حياته: من هو أولاً في حياته مرتا أم مريم؟ شريعة العمل أم شريعة الصلاة؟ ولا نقسي قلوبنا ولنسارع إلى إصلاح هذا السلم ليكون لنا النصب الأفضل الذي لا ينزع منا، لتكون لنا الحياة الأبديّة.

آمين.