تذكار القديس موسى الحبشي (بحسب الكنيسة المارونية) كان موسى رئيساً على زمرة من اللصوص حتى بلغ الثلاثين من عمره، الى ان هداه الله على يد احد السياح، فظهرت له فظاعة حياته وتاب توبة حقيقية، متنسكاً، ممارساً الفضائل ببطولة. رسمه تاوفيلوس بطريرك الاسكندرية كاهناً. قتله البرابرة عام 400، صلاته معنا. آمين.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً: تذكار القديس اغوسطينوس ملفان البيعة
ولد اغوسطينوس سنة 354، في مدينة تاغستا، شمالي افريقيا، من والدين مسيحيين، بتريسيون ومونيكا. تلقن العلوم العالية على اساتذة وثنيين فمحوا من ذهنه ما كان قد تعلمه من مبادئ الديانة المسيحية.
اتم دروسه العالية في قرطاجا، فتفوق على اقرانه وهو في التاسعة عشرة من عمره. وكان طموحاً الى المجد والغنى، ولوعاً بمطالعة كتب الفلاسفة الوثنيين وشعرائهم. استسلم الى شهوات الجسد، وانتحل طريقة المانيِّين المنكرين الوحي والمعتمدين على الفلسفة الطبيعية وقوة العقل البشري. ورأى في تلك الطريقة ما زاده توغلاً في المفاسد والشرور.
وكانت والدته مونيكا تبكي وتتضرع الى الله لاجل اهتداء ابنها. فاستجاب الله صلاتها، وكشح عن عقل اغوسطينوس ظلمات الضلال. فنبذ المانيِّة وفسادها ظهرياً، لانها لم تكن لتشبع عقله وقلبه المتعطشين الى ينبوع الحقيقة والمحبة الصافي. وقد حمله على التوبة مثل المتوحدين ولا سيما حياة القديس انطونيوس الكبير فقال لصديقه أليبيوس:” هؤلاء البسطاء يرثون السماء ونحن العلماء نلهو باباطيل الارض؟” ثم خرج يبكي خطاياه ويأسف على سيرته الماضية.
قصد القديس امبروسيوس الذي كان يسترشده يوم كان تلميذاً في ميلانو، فمنحه سر العماد المقدس وهو ابن 33 سنة.
اما امه مونيكا فطار قلبها فرحاً على اهتداء ابنها، ثم رقدت بالرب بين يديه.
وانكب على اعمال التوبة ومطالعة الكتاب المقدس والتأليف، فرسمه فاليريوس اسقف ايبونه كاهناً سنة 391 واقامه مساعداً له.
ولما توفي فاليريوس، خلفه اغوسطينوس على كرسي الاسقفية. فأخذ يعيش عيشة الراهب الناسك. شيد للرهبان ديراً قضى فيه حياته كلها. كما أنشأ ديراً للرهبات، كانت اخته رئيسة عليهن.
وقام يكافح الدوناتيين فأفحمهم ورد منهم كثيرين الى الحقيقة، كافح هرطقة البيلاجيين الناكرين النعمة ومفاعيلها والخطيئة الاصلية. لُقِّبَ “باللاهوتي وكوكب العلماء وزهرة المدارس وعمود الكنيسة ومَفزعة المبتدعين”.
وقد أنشأ اغوسطينوس الكنائس والمستشفيات والمياتم. وكان عَطوفاً كل العطف على الفقراء والمرضى. وقد اضطر مرة ان يبيع آنية الكنيسة ليقدم ثمنها جزية عن بعض الاسرى، واعماله الخيرية لا يحصى لها عد.
وكفى بكتاب اعترافاته الشهيرة دليلاً على عمق تواضعه… وفي تأمله بسر التجسد كان يقول:” يا رب، من لا يعبدك كمبدع المخلوقات، يستحق جهنم، ولكن من لا يعبدك بعد ان تجسدت وتألمت ومت لاجله، فانه يستحق جهنماً اخرى اشد عذابا”.
وانهى هذا القديس العظيم حياته في معركة ملكوت المسيح في 28 آب سنة 430، وله من العمر 76 سنة.
وقد أغنى الكنيسة بما تركه من المؤلفات التي تربو على 120 كتاباً ما عدا الرسائل النفيسة. وأنشأ رهبانية تعد اكثر من مئتي جمعية من رهبان وراهبات ينتمون اليه ويسيرون بموجب القوانين والفرائض التي وضعها. صلاته معنا. آمين!
.
القديس البار موسى الأسود (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)
ليس شيء معروفاً في شأنه قبل توبته. لقبه الأسود عائد إلى كونه أسود اللون، قيل من الأحباش وقيل من قبيلة من قبائل البربر. حياته، في ماضيه، كان ملؤها الشرور حتى قيل لم توجد رذيلة إلاّ اقترفها. يُقدَّر أن ميلاده كان ما بين العامَين 330 و340 م. كان عبداً مملوكاً لشيخ قبيلة تعبد الشمس. طرده سيِّده لكثرة شروره. نهب وسطا وقتل. كان ضخم الجثّة جبّاراً وصار رئيس عصابة. مما ورد، للدلالة على قواه البدنية، أنّه عبر، في أحد الأيّام، نهراً فسرق خروفَين لراعي غنم وذبحهما وعبر بهما ثانية إلى الضفّة المقابلة من النهر.
رغم شروره كان يخاطب الشمس كأنّها الإله سائلاً إيّاه أن يكشف له ذاته. وجاء يوم سمع فيه صوتاً يدعوه إلى البرّية، إلى رهبان برّية شيهيت الذين ذاع خبرهم في ذلك الزمان.
ذهب إلى هناك حاملاً سيفه. التقى القسّ إيسيدوروس، وكان خارجاً من قلاّيته ليذهب إلى الكنيسة، فارتعب من منظره. سألَه القسّ: “ماذا تريد يا أخي هنا؟” أجابه موسى:”قد سمعت أنّك عبد الله الصالح. من أجل هذا هربت وأتيت إليك ليخلّصني الإله الذي خلّصك”. وكان يلحّ عليه: “أريد أن أكون معك ولو أنّي صنعت خطايا كثيرة وشروراً عظيمة”.
سأله إيسيدوروس عن سيرته فاعترف لديه بكل ما صنع من شرور. فلما تأكّد له صدقه أخذ يعلّمه ويعظه بكلام الله ويخبره عن الدينونة العتيدة. ثم غادره لتأمّلاته.
ذرف موسى الدمع سخيّاً وقد كره الشرّ وعزم على التوبة. اجتاح الندم نفسه وأقلقه في ليليه كالشبح المخيف.
عاد إلى الأب إيسيدوروس وركع أمامه وأدّى اعترافاً بصوت عالٍ وانسحاق قلب وهو يبكي. أخذه إيسيدوروس إلى الأنبا مكاريوس الذي رعاه وعلّمه وأرشده برفق وعمّده ثمّ سلّمه إلى الأنبا إيسيدوروس ليتابع العناية به.
لما تقدّم موسى في المعرفة بعضاً طلب أن يصير راهباً، فشرح له إيسيدوروس أتعاب الرهبانية ومحاربات الأبالسة وحاول أن يصرفه إلى أرض مصر. كان هذا ليختبر تصميمه. فلما رآه ثابتاً صادقاً عاد فأرسله إلى القدّيس مكاريوس أب البرّية.
وكان أن أدّى موسى اعترافاً علنياً كاملاً، بخطاياه، في الكنيسة ضمّنه كل ما فعل من قبائح في حياته الماضية. مكاريوس، أثناء اعترافه، كان يعاين لوحاً عليه كتابة سوداء. فكلّما اعترف موسى بخطيئة ارتكبها كان ملاك الربّ يمسحها له. وما إن انتهى من أداء اعترافه حتى كان اللوح قد ابيضّ. إثر ذلك وعظه مكاريوس وأعاده إلى إيسيدوروس فألبسه إسكيم الرهبانية وأوصاه قائلاً: اجلس، يا بنيّ، في هذه البرّية ولا تغادرها، لأنّك في اليوم الذي تخرج منها تعود إليك كل الشرور. لذا أقم زمانك كلَّه فيها، وأنا أؤمن أنّ الله سيصنع إليك رحمة ويعطيك نعمة ويسحق الشيطان تحت قدميك.
سكن موسى، أوّل أمره، بين الإخوة الرهبان. لكنّه، لكثرة الزوّار، طلب أن ينعزل فأرشده القدّيس مكاريوس إلى قلاّية منفردة عاش فيها مثابراً على الجهاد الروحي. وبقدر ما كان موسى مقبلاً، في ماضيه، على الشرّ، صار مقبلاً، في حاضره، على التوبة والجهاد. ذكّره الشيطان بعاداته الآثمة القديمة فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالثبات في الجهاد لأن تلك العادات كانت قد تأصّلت فيه.
شكا موس بخاصة حرب الجسد فضرب له إيسيدوروس مثَلاً في الثبات فقال إنّ شهوات الجسد كالكلب الواقف أمام الجزّار، إن لم يعطه شيئاً وأصرّ فسيتحوّل الكلب عنه إلى آخر.
حورب بالزنى بضراوة ولم يُطق الجلوس في قلاّيته، فرجاه إيسيدوروس أن يعود. قال: لا أحتمل ذلك يا أبت. أخذه وأصعده إلى السطح وقال له: انظر إلى المغارب. فتطلّع فرأى حشداً من الشياطين لا يُعدّ هائجاً يُحدث شغباً استعداداً للحرب. ثمّ قال له: انظر إلى المشارق. فتطلّع فرأى حشداً من الملائكة القدّيسين الممجَّدين. فأردف: هؤلاء هم الذين يرسلهم الله لمساعدة القدّيسين. أما الذين في الغرب فهم الذين يحاربونهم. لكن الذين معنا هم أكثر من الذين علينا. فشكر موسى الله وتشجّع وعاد إلى قلاّيته.
وعلى نصيحة إيسيدوروس، حاول موس أن ينهك قواه بالوقوف طويلاً في الصلاة والصوم والمطّانيات. وقمعاً لجسده كان يطوف، ليلاً، بالقلالي يأخذ جرار الشيوخ الرهبان ويملأها ماء. كل هذا جعل الشيطان يضجر من فرط جهاده وحُسن رجائه فالتقاه، عند البئر، مرّة، وضربه ضرباً موجعاً وتركه غير قادر على الحركة. ولكنْ جاء إخوة إلى البئر وحملوه إلى الكنيسة، إلى الأب إيسيدوروس. بقي في الكنيسة ثلاثة أيّام ثمّ استردّ عافيته.
مرّة أتاه أربعة لصوص يرومون سرقته فربطهم وحملهم وأتى بهم إلى الكنيسة. فلما علم اللصوص بأنّه موسى الذي كان رئيساً لعصابة اللصوص، تابوا وترهّبوا. فوعظهم بكلام كثير وحرّك قلوبهم.
ومن فرط جهاده هاجت عليه الشياطين فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالإعتدال في نسكيّاته وشدّد عليه أن يسلم أمره لله وهو وحده يرفع عنه القتال لئلا يظنّ أنّه بكثرة أعماله النسكيّة يقهر الشياطين، بل بالتواضع يحارب اللهُ عنّا.
لما أرادوا سيامته قسّاً امتحنوه، فطردوه لحظةََ دخوله الهيكل قائلين: اخرج من هنا يا أسود اللون! فخرج وهو يقول لنفسه: لقد فعلوا بك ما تستحقّه لأنّك لست إنساناً، وقد تجرأت على مخالطة الناس. فلماذا تجلس معهم؟ ولمّا سيم سُمع صوت من فوق يقول: “مستحق” ثلاثاً. فلما ألبسوه الثوب الأبيض قالوا له: ها قد صرت كلّك أبيض يا موسى. فأجاب: ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج.
عاش كل أيّامه مُنكِراً لنفسه. سمع حاكمٌ بفضائله فرغب في أن يراه. فلما علم موسى بزيارته هرب. ولكنْ التقاه الحاكم بعيداً عن قلاّيته فسأله عن قلاّية الأب موسى فقال له: وماذا تريد أن تسأله؟ إنّه عجوز وغير مستقيم. فاضطرب الحاكم وقصد الدير وأطلع أهله على ما سمعه من الراهب الغريب. فسألوه عن أوصاف الرجل. فلما شخّصه لهم عرفوا أنّه الأب موسى نفسه.
هذا وقد مَنّ الربّ الإله على عبده بموهبة صنع المعجزات لحبّه وتواضعه وجهاده ونُسكه الشديد.
في إحدى المرّات ذُكر عن راهب أنّه سقط في زلّة فانعقد المجمع لمحاكمته. ثمّ أرسلوا يدعون الأنبا موسى. أما هو فلم يُرد أن يأتي. فأصرّ عليه الكاهن فنهض وأتى حاملاً كيساً مثقوباً فيه رمل. فلما رآه الإخوة، الذين خرجوا للقائه، تعجّبوا وقالوا له: ما هذا يا أبانا؟ أجابهم: أنتم تدعونني لأحكم في أمر أخٍ لي سقط في زلّة، وهذه ذنوبي خلفي تجري ولا أراها ولا أُحسّ بها. فخجلوا من كلامه وأطلقوا الأخ المذنب.
مرّة أخرى صدرت في الإسقيط وصّية أن يُصار إلى الصوم في ذلك الأسبوع. وحدث، أثناء ذلك، أن زار بعض الإخوة الأب موسى قادمين من مصر، فأعدّ لهم طعامأ. فلما عاين الإخوة الدخان المتصاعد قالوا للآباء: انظروا، ها قد أوقف موسى صيامه وأعدّ لنفسه طبيخاً. فلما جاء السبت ودرى الآباء بما فعل قالوا له أمام الإخوة: يا أبانا موسى، لقد حللت وصيّة الناس وحفظت وصيّة الله، التي هي ضيافة الغرباء.
لما أتى البربر إلى الدير، حوالي العام 407 م، وكان هو يَعلَمُ بالروح أنّهم مقبلون، قال للإخوة، وكانوا سبعة، أن يهربوا فسألوه عن نفسه: وأنت ألا تهرب يا أبانا؟ قال: منذ زمن طويل وأنا أنتظر هذا اليوم لكي يتمّ فيّ قول السيّد المسيح مَن يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ (مت52:26). فقالوا له: ونحن، أيضاً، لا نهرب، بل نموت معك. فقال: هوذا البربر يقتربون من الباب. فدخلوا وقتلوهم. لكن واحداً منهم خاف وهرب إلى الحصن فرأى سبعة تيجان نازلة من السماء توّجت السبعة. فتقدّم هو أيضاً ونال معهم إكليل الشهادة.
هكذا أكمل الأنبا موسى سعيه. كان في الخامسة والسبعين أو الخامسة والثمانين. قيل نال ثلاثة أكاليل: إكليل الحبّ والنسك الشديد وإكليل الرهبنة والكهنوت إكليل الشهادة.
هذا ويُعتبر موسى أول شهيد في الإسقيط وجسده محفوظ مع الأنبا إيسيدوروس بدير البراموس.
من أقواله:
v جواباً لأحد الإخوة سأل كلمة منفعة قال: اذهب واجلس في قلاّيتك وهي تعلّمك كل شيء.
v مَن يهرب من الناس يشبه كرمة حان قطافها. أما مَن يقيم بين الناس فيشبه الحصرم.
v إذا لم يشعر الإنسان في أعماقه بأنّه خاطئ لا يصغي إليه الله.
v إذا لم تتفّق الصلاة مع السيرة عبثاً يكون التعب.
v سأله أخ: في كل مسعًى للإنسان، ما الذي يساعده فيه؟ قال: الله! قال: وما نفع الأصوام والأسهار إذاً؟ فأجاب: هذه من شأنها أن تجعل النفس وديعة متواضعة. إذ ذاك متى صلّى المجاهد: انظر إلى تعبي وتواضعي واغفر جميع خطاياي (مز18:24) فإنّ الله يتحنّن عليه.
v سألوه: ماذا يعمل الإنسان بكل تجربة تأتيه أو بكل فكر من الشرّير؟ فقال: يبكي أمام صلاح الله كي يعينه، فيرتاح للحال.
تذكار أبينا البار موسى الحبشي : (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
كان موسى من بلاد الحبشة الغنيّة الواسعة الإرجاء المترامية الأطراف، وكان أسود البشرة نظير أهل وطنه وكان عبداً رقّاً منذ حداثته لأحد أغنياء بلاده. لكنّه كان منذ الصغر شرس الطباع، صعب الإنقياد، عديد الرذائل، فلم تنجح فيه الحيل. رغم ما كان يناله من التأديب والضرب. فكان عبثاً ثقيلاً على سيّده، فطرده من بيته.
وكان موسى طويل القامة، حادّ النظرات، شديد العضل، مفتول الساعدين. ولمّا لم يكن له عمل يعيش منه، جمع له رفقة تشبهه من الرجال المتشرّدين فضمّهم إليه، وأخذت تلك العصابة تعيث فساداً في البلاد وتقطع الطريق على العباد. فأضحت وبالاً على الناس، ونشرت الرعب في تلك الجهّات. فكانت تسطو على القوافل، فتقتل وتسلب، وتأتي ما لا يصفه من أنواع الرذائل والقبائح.
وبقي موسى على تلك الحال حتى صار إبن ثلاثين سنة. ولكن لا بد أنّه صنع يوماً رحمة إلى أحد المسافرين حتى نال رحمةً من الله. فمسّت نعمة الروح القدس قلبه، فظهرت له فظاعة حياته، فهاله الأمر، وعزم أن يكفّر عنها بالدموع والصلاة والصوم، والإنفراد مع النسّاك في البراري والقفار.
وقصد موسى صعيد مصر، وأتى برّية الأسقيط الآهلة وقتئذٍ بالرهبان والنسّاك.
فطرق باب القديس مكاريوس وطلب إليه أن يرأف به ويقبله بين رهبانه، ويساعده على عمل توبة شديدة يكفّر بها آثامه. فتردّد مكاريوس في قبوله لمّا عرفه من هو، ووقف على ماضي حياته. فتركه أياماً منطرحاً على بابه، يتضرّع ويذرف الدموع، ويعدُ أن يكون مثالاً للصلاح كما كان زعيماً للشقاوة. فرضي به مكاريوس وقبَله في ديره.
وما هي أيام معدودة حتى أضحى موسى من أفضل الرهبان، بطاعته وصلاته وصياماته ودوامه على عمل الأيدي، وممارسته لأنواع الإماتات الشديدة المتواصلة. فلم يكن يأكل سوى الخبز الناشف، ولا يشرب إلاّ الماء الصرف، وكان يقضي الليالي في الإسهار والصلوات، يذرف الدموع ويتضرّع إلى الله لكي ينسى آثامه ويترك له ذنوبه.
ويحكى أنّه كان يوماً في منسكه يمارس أعمال عباداته، وإذا بأربعة من اللصوص يهجمون عليه ويتهددونه بالقتل إن هو أبدى مقاومة. وشرعوا ينبّهون ما عنده من الأمتعة القليلة الفقرية، لظنّهم أنّه راهب مسكين ضعيف، ولا سيّما وأن الأصوام كانت قد أضنته وأهزأت جسمه. فردعهم موسى عن عملهم ورجا منهم أن يتركوه وشأنه. فأغلظوا له في الكلام، وانهالوا عليه الضرب. فما كان منه إلاّ أن وثب عليهم وطرحهم على الأرض واحداً فواحداً. ثم شدّ وثاقهم وقادهم صاغرين إلى الكنيسة، حيث كان الأخوة مجتمعين. ولمّا علم أولئك الأشرار أن هذا هو موسى الحبشي الذائع الصيت خافوا واستغفروا، ومجّدوا الله على أعماله العظيمة. ثم طلبوا أن يتمثّلوا به، ويسيروا على منواله ويكفّروا معاصيهم نظيره بحياة النسك والصلاة والصوم.
وانتشر خبر توبة موسى في الصحاري بين النسّاك والرهبان، وفي المدن والقرى بين السكان، فأقبلوا يتوافدون عليه، يريدون أن يشاهدوا بأعينهم ذاك الذي كان لصّاً شرّيراً فأصبح ناسكاً قديساً. فلم يبقَ له وقت يتفرّغ فيه لعباداته. فذهب إلى أبيه مكاريوس يشكو له أمره. فأشار عليه أن يتوغّل في القفر وينفرد فيه لوحده. ففعل. ووجد كوخاً حقيراً فسكن فيه، وقام يمارس أعمال توبةٍ شديدة صادقة.
فلم ترقَ تلك الحياة الملائكية في عين الشيطان عدو كل خير. فانقضَّ عليه يهاجمه بأفظع التجارب الدنسة. فذهب موسى إلى الأب البار إيسذورس، الكاهن القديس الذائع الصيت، وطلب إليه أن يرشده إلى ما به يدفع شيطان الدنس عنه. فقال له: لا تعجب من هذا، يا أخي. لأن الملكات الرديئة التي تعوّدتها لا بد أن تتنبّه وتهاجمك لتعود فترضيها. فهي نظير الكلب الذي اعتاد أن يأتي مسلخاً ويشبع منه بطنه، فإنّه كل يوم يعود إلى ذلك المكان يطلب فيه قوّته. ولكن إذا جاء ووجد باب المسلخ مقفلاً، وعاد ثانيةً وثالثة فوجده كذلك، فإنّه يهجره ويذهب في طلب سواه. وهكذا أنت يا أخي. أغلق باب قلبك بالأصوام والأسهار دون هذا الكلب الجهنّمي، فيتركك.
فارتاح موسى لهذا الكلام، وعاد إلى خلوته، وزاد في التشديد على نفسه، لكي يميت حركات الآلام في أعضائه. ولكي يكثر من السهر في الليل، ويبعد عنه تلك الأشباح القبيحة التي كانت تهاجمه، إبتكر طريقةً جيدةً تساعده على نيل مناه، فقام يمارسها.
وبلغ موسى شأواً بعيداً في الكمال الرهباني، حتى أضحى من أعظم النسّاك. فتتلمذ له سبعون راهباً، فكان يقودهم بحكمةٍ ودراية وفضيلة سامية في طرق الكمال.
وأعجب البطريرك الإسكندري ثاوفلس بعلمه ودرايته وحكمته، فرسمه كاهناً وأقامه يوزّع على أخوته الرهبان كلام الله، ويغذّي نفوسهم بالأسرار الإلهيّة.
وحدث له أن والي الإقليم المصري، لمّا سمع بسيرته الغريبة وقداسته العجيبة، جاء لكي يزوره ويراه. فعلم موسى بقدومه، فهرب من وجهه.
وسقط يوماً أحد النسّاك في زلّةٍ، فاجتمع الآباء لكي يحكموا عليه بما توجبه تلك الزلّة من العقاب، ودعوا الأب موسى إلى حضور ذلك الإجتماع. فأبى أن يذهب. فألحّوا عليه. فقام وملأ كيساً كبيراً وحمله على ظهره وجاءهم به. فلمّا رأواه تعجّبوا وسألوه ماذا يريد بذلك. فقال لهم: تدعونني لأحكم على أخٍ في زلة، وذنوبي أنا هي أحمال ثقيلة فوق ظهري. فخجلوا منه وعفوا عن ذلك الأخ المذنب، وأكبروا في موسى تواضعه، وذهب كل إلى منسكه يردد في قلبه ما رأى وسمع.
وكان الأب موسى يقول في إرشاده لتلاميذه: أربعة تعرّضنا لتجارب الدنس: الإفراط في الأكل والشرب، وكثرة النوم، والبطالة وما يتبعها من قتل الوقت بالمزاح المجوني والكلام على القريب، وأخيراً الثياب الناعمة.
وكانت عشائر العرب والبربر تهاجم المناسك أحياناً، وتُعمل فيه السلب والنهب والقتل وكان النسّاك والرهبان يفرّون هاربين أمام تلك العصابات المتوحّشة. أمّا موسى الحبشي، فكان يحسب أن تلك الغزوات إنّما هي عقاب للرهبان على توانيهم في عبادة الله.
وكان موسى قد تقدّم في السن، وصار إلى شيخوخة صالحة، وامتلأ من النعم ومن الأجور السماوية. فقال يوماً لبعض الرهبان من تلاميذه: في هذا النهار يهجم علينا البرابرة ويقتلوننا. فقوموا وانجوا بأنفسكم. فقالوا له: إذا كان الأمر كذلك، فقم معنا لنتوارى من أمامهم. فقال لهم: لا. أما قرأتم في الكتاب المقدّس أن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ؟ وأنا لا بد لي أن أموت بالسيف، تكفيراً عن آثامي السالفة. فأبوا أن يتركوه ويهربوا.
وفيما هم كذلك، أقبلت شراذم البربر، وأعملت السيوف في رقابهم، ولم ينجُ منهم إلاّ واحد كان قد توارى وراء زنبيل كبير. وهكذا أنهى ذلك الرجل العجيب حياته الغريبة، وبقي مثالاً حيّاً للتكفير عن الذنوب ولعظم مراحم الله. وكان ذلك نحو سنة 400.
استشهاد 30 ألف بالاسكندرية (بحسب الكنيسة القبطية الارثوذكسية)
في مثل هذا اليوم تذكار شهادة ثلاثين ألف مسيحي بمدينة الإسكندرية، وذلك أنه بعد أن نفي الملك مرقيانوس البابا ديسقورس إلى جزيرة غاغرا وعين بروتاريوس بطريركا عوضا عنه رفض أساقفة مصر الاشتراك معه وعقدوا مجمعا ضده وضد مجمع خلقيدونية ورسالة لاون هذه الرسالة التي أرسلها أسقف روما “لاون” إلى مجمع خلقيدونية ومن مضمونها ” حقا يأتي المسيح الاثنان الإله والإنسان. الأول يبهر بالمعجزات والثاني ملقي للإهانات ” ولهذا حرمها الأرثوذكس علي مجمع خلقيدونية كما حرم البابا ديسقورس أيضا بدعة أوطاخي التي تقول بامتزاج طبيعة المسيح الناسوتية في طبيعته اللاهوتية، ووقوع الألم علي جوهر اللاهوت وقال الآباء باتحاد اللاهوت بالناسوت كاتحاد الحديد فبالطرق عليه يكون الأثر علي الحديد ولكن النار لا تتأثر مع مشاركتها للحديد في الاتحادية كما أن اتحاد اللاهوت بالناسوت عند الآلام أعطى قيمة كبري للمتألم لأجل خلاص جنس البشرية جميعا.
فاغتاظ بروتاريوس وهجم بقوات الحكومة علي الأديرة والكنائس ونهبها ثم استولي علي أوقافها فأصبح ذا ثروة كبيرة ومال وافر فانقض عليه اللصوص ليلا وقتلوه وسلبوا ما وجدوه معه فأرسل أصحابه إلى الملك قائلين: “أن أصحاب ديسقورس هم الذين قتلوا البطريرك الذي عينة الملك ” فغضب وأرسل عددا كبيرا من الجنود فقتلوا نحو ثلاثين ألف مسيحي.
وعلي أثر ذلك مات مرقيانوس وجلس لاون الكبير فانتهز أساقفة مصر هذه الفرصة ورسموا الأب تيموثاوس بطريركا علي الإسكندرية وفي الحال جمع مجمعا وحرم المجمع الخلقدوني فأعلم الهراطقة الملك قائلين: “أن الذين قتلوا بروتاريوس رسموا لهم بطريركا بدون أمر الملك ” فغضب ونفاه هو وأخاه أناطوليوس إلى جزيرة غاغرا. فلبث هناك سبع سنوات إلى أن أعاده الملك لاون الصغير فاتحد مع الأب بطرس الأنطاكي وعقد مجمعا في العاصمة مؤلفا من خمسمائة أسقف وحكم برفض أعمال مجمع خلقيدونية وأقر التعليم بوحدة السيد المسيح الطبيعية. ورفع تقريرا بذلك إلى الملك فقبله وأصدر منشورا بوجوب التمسك به دون غيره وبذلك اتحدت كراسي الإسكندرية والقسطنطينية وإنطاكية وأورشليم معا زمانا طويلا.
صلوات هؤلاء الآباء تكون معنا. آمين.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : استشهاد القديس دميان بإنطاكية
في مثل هذا اليوم استشهد بمدينة إنطاكية القديس دميان وقد احتمل عقوبات وعذابات شديدة فأسلم نفسه بيد الرب.
صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائما. آمين.