آبائِي قادَة الكَنِيسَة المُبارَكِين ،
كَما تَذرُفُ الأُمُّ الدُّمُوع مِن أَجلِ وحدَةِ أَبنائِها، هكَذَا أَكتُبُ إلَيكُم اليَومَ بِقَلبِي المُثقَل بالوَجَعِ وَالقَلق، أرفَعُ إلَيكم هَذِه الرِّسالَة بَعدَ الإصغاءِ، إلى مَجموعَةٍ منَ العِظاتِ الّتي ألقيَت مِن قِبَلِ مَسؤُولينَ مِن بَعضِ الكَنائِس، وقَد أثارَت غَضَبًا واستِهجانًا عارِمَين منَ الكَثيرين ومن الطّوائِف كافَةً، وقَد أَظهَروا سُخطَهُم عَبرَ مواقِع التّواصُل الإجتِماعِيّ. لِذا آلَيتُ على نَفسي أَن أحمِلَ وَجَعَهُم وسُخطَهُم هَذَين إلى المنابِرِ والمراجِع الكَنَسيّة كافَةً، لِوضعِ حَدٍّ لِهَذا الوَجَع وهَذا الخُطاب المُدَمِّر…
الكَنِيسَة، أُمّنا الرّوحيَّة وعرُوس المَسِيح، بِحاجَةٍ ماسَّة إلى نداءِ الوحدَة.
لَقَد صَلَّى ربّنا يسُوع المسيح، بِحُبٍّ عَظِيم، من أَجلِ وحدَتِنا، ونحنُ، أَبناءَ هذهِ الكَنيسَةِ، نَأتي إليكُم اليَومَ، مُثقَلِينَ بِالأَلَمِ، لِنَقُول:
ألَم يحِنِ الوقت لنضعَ حدًّا لنزاعاتٍ وخلافاتٍ تُمَزِّق جَسَدَ المَسِيح وتُعيدُ للّذاكِرَةِ سيناريو صَلبِهِ وآلامِه!
ويَحضُرُني قَولُ المَسيحِ في إِنجِيلِ رَسولِهِ يُوحَنَّا:” لَسْتُ أُصَلِّي لِهَؤُلَاءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي مِنْ كَلِمَتِهِمْ، لِيَكُونُوا جَمِيعًا وَاحِدًا، كَمَا أَنتَ يَا أَبِي فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.” (يوحنا 17:20-21)
أيُّها القادَةُ المُبارَكُون: قد لا يكون المؤمنون على درايةٍ تامّة بالمُشكِلَات الّتي يصير التَّدَاوُل بها وَالكَلام عليها في اللِّقاءاتِ والدِراسَاتِ، ويَلُفُّهُم، مِن كُلِّ حَدبٍ وَصَوبٍ، ضبابٌ كَثيف وحيرة قتّالة، ويتمنّون على غرار مطالبة الزُّعَمَاءَ والحُكّامَ والطّواقِم السّياسيَّة بِإيقافِ الحُروبِ، والدّخول إلى مَنظومَةِ الحِوار، أن نسعى جميعًا برُوحِ المحبّةِ المسيحيَّةِ الصّادِقَةِ إلى إنهاءِ الاِنقسامات والمُواجَهات العَقيمَة؟ وكُلّ مَن حَولَكُم يُمعِنونَ في طَرحِ أسئِلَةٍ وجدانِيَّة مَصيريّة إنسانِيَّة إجتِماعِيّة، ملتجئين إلى الرّجاء ليُلهِمَ الربّ قادتهم إلى إيجادِ حُلُولٍ لَها…
مَوضوعٌ محوَريٌّ حمله معه إلَهُنا ومُخَلِّصنا يَسوع المَسيح لَيلَةَ آلامِهِ وصلّى من أَجلِهِ، وما زالَ هُناكَ يَنتَظِرُ الجَوابَ عَلَيهِ، فليس أعزّ على قلب يسوع من أن نستجيب إِلى ندائِهِ مِن أجلِ الوحدة.
وأَراهُ يَدعُوكُم اليَومَ لِتَعمَلُوا معًا كجسد واحد. إنَّ حُبَّ المَسيحِ يَتطَلَّبُ مِنّا أَن نتَجَاوَز الاختِلافَاتِ ونُرَكِّز على رِسالَتِنَا المُشتَركَة، ألا وَهيَ: “نَشرُ إِنجِيلِ الحُبِّ وَالسَّلام”. يحدونا إلى ذلك ما قَالَهُ الرَّسول بُولُس في رِسالَتِهِ إلى أهلِ فيليبّي: (في 2)
فأَتِمُّوا فَرَحي بِأَن تَكونوا على رأيٍ واحِدٍ ومَحَبَّةٍ واحِدة وقَلْبٍ واحِدٍ وفِكْرٍ واحِد. لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه، ولا يَنظُرَنَّ أَحَدٌ إِلى ما لَه، بل إِلى ما لِغَيرِه. فلْيَكُنْ في ما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع…
أيُّها القادَةُ المُبارَكُون:
يخافُ أولادكم ممّا يفرِّق ولا يَجمَع، وَها هُم بأَناشِيدِهِم وصَلواتِهِم ودَعَواتِهِم يُلهِمُونَنا كي نَلتَزِمَ بِتَوَاضُعِ المَسيح وَحبِّهِ، وأَن نَتعامَلَ مَعَ بَعضِنا البَعض بِحُبٍّ وَاحتِرَامٍ. فهَلّا سمعنا استغاثَةَ القَطيع، ونحنُ الرُّعاةُ الصَّالحُون، وطَرَحنا عَنّا كُلَّ لامبالاة وريبَةٍ وعَداءٍ مُتَبادَل كَما تَدعُونا صلاةُ الوحدَة؟
فدَعُونَا نَتَجَاوَز الاختِلافَاتِ ونَحتَفِل بِتَنَوُّعِنَا الّذي يبقى مصدَرَ غِنًى، ولا سيّما أنّ الأمرَ مُتوقّفٌ على مواقِفِكُم بالذّات، كَونكم أصحاب الحَلّ والرَّبط، في هذَا الموضُوع.
تَعالَوا نَحتَفِل بِكَلِماتِ المَسيحِ الّتي هِيَ أشهَى مِنَ العَسَلِ عَلى قَلبِ جَميعِ المُؤمِنين، حِينَ قالَ: ” أُعْطِيكُم وَصِيَّةً جَديدَةً: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا. كَمَا أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعَضُكم بَعْضًا. إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلامِيذِي”. (يو 13: 34)
أيُّها القادَةُ المُبارَكُون:
ألَم يحِنِ الوقت لننبذَ كلَّ اختلافٍ يُبعدُنا عن نُور ِالمَسيح، وَهوَ القائِل: أَنا نُور العالم.
إِنَّ مَحَبَّتنَا يَجِب أَن تكُونَ الضَّوء الَّذِي يُنِيرُ الطَّرِيقَ للآخَرِين، وَلَيسَ مَصدَرًا لِلظَّلامِ والتَّفرِقَة. “فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ إِلَهَ الْفَوْضَى بَلْ إِلَهُ السَّلاَمِ، كَمَا فِي كُلِّ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ.” (1 كورنتوس 14:33)
أيُّها القادَةُ المُبارَكُون: ألَم يَحِنِ الوَقت لإنهاءِ هَذَا الاِنقسَام المُزمِن الَّذِي مزّق الكنيسة، جسد المسيح السِّرِّيّ، والّذي أَدمى قَلبَ يَسُوع وما زَال يُدمِيه. فأَبعَدَنا هذَا الإِنقِسَام عَن سَلامِ اللهِ! سَاعِدُونَا وساعِدُوا كلَّ العامِلِين عَلى مَشرُوعِ الوحدَةِ كي يَفرَحوا ويرتاح قلبُهُم لِما سَتُنجِزونَ… ودعونا اليَومَ ، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، نَتَوَقَّف عن كلّ ما يُعيقُ الوحدة، قولاً وفعلاً ، فيباركنا الربّ من عليائِهِ ويُسَرُّ بنا، ويوشِّحنا ببُرد السَّلام، وهو القائل: “سلامي أُعطيكم”…
إنَّ تحذِيرَ بُولُس الّذي وجَّهَهُ إِلى الغَلاطيِّين في حِينِه، هُوَ، بِدونِ أدنَى شَكٍّ، تَحذِيرٌ لَنا جَمِيعًا:
“فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا “. (غلاطية 5:15)
أَيُّها القادَةُ المُبارَكُون:
ألَم يحِنِ الوقت لخطابٍ توحيديّ مُسالم، فيه نفحةٌ عطرةٌ من صليب المسيح؟ ولتسليمٍ كلّيّ بمشيئة الباري الّذي باركَ التنوُّع في الوحدة؟ ألسنا كلّنا نكسر الخبزَ الواحد، وَهوَ جَسُد المَسيح؟
وإذا استمرَّينا في الابتِعاد عنِ الوحدَة – لا سَمحَ الله – ألا نكُونُ كمَن يُنبىءُ، أو يُشعلُ حتّى، حربًا عالميّة روحيَّة؟ أَلا نكُونُ في خَطرِ تَدميرٍ، وإن غير مقصُود، لمَفهوِمِ الوحدَة؟ ها إِنَّ الرَّبّ يَدعُونا لِنَستَمِعَ وَنُصغِيَ إلى إلهاماتِ الرُّوحِ القُدُس… وتَحذِيرَاتِه ونختار طريقًا أَفضَل، فَباسمِ المَسيح:
- لِنوقِفْ مُسَلسَلَ النِّزاعَات : ولنتَرفَّعْ عَنِ المُشَاجَرَات وَالخِلافَات الصَّغِيرَة الَّتِي تُفَرِّقُ بَينَنَا. وبَدَلاً مِن ذَلِكَ، فلنعمَلْ مَعًا بقلُوبٍ مُنفتحَةٍ وعُقُولٍ رَحبَة.
- لِنُشَجِّعِ الإِحترامَ المُتَبَادَل : فإذا استمرّينا وراء حواجز تشبّثنا، كلّ من طرفه، بأنّه صاحب الحقّ، فلَن نَصِلَ إلى نتيجَة، فلنَحترِم تنوُّعنا، وإنّ الرّوح القُدُس المُلهِم لَن يَترُكَنا وقَد زيَّنَنا بمواهِبِه، ورأسُها الحكمة، فَنَعرِف كيفَ نَصِل إلى السَّبيل السَّوِيّ، ونَحنُ نُفاخِرُ بتَنَوُّعِنا، ما دَام الهَدَفُ واحِدٌ، إنَّما طريقَة الوُصُولِ إليهِ هي الَّتي تَختَلِف؛ فَلا تُضيعنا الطَّريقَةُ عَنِ الهَدَفِ الأَسمَى.
- لِنُطفِىءْ نيرانَ النِّزاعات: لِنَنطلِق مِنَ الحاضِرِ، ولا ننكَأ جراحَ الماضِي، فحُبُّ المسيح كفيلٌ بأن يُنيرَ طريقَنا، ويُوصلَنا إلى المرَاعي الخَصيبَة.وليكُنْ خطابُنا خطاب المصالحة والدَّعوَةِ الحَقِيقِيَّة الصَّادِقَة إلى الوَحدَة.
- لَنتذكَّرْ مهمَّتنَا المُشتَرَكَة: فنحنُ متَّحِدُون في هَدَفِنا—لِنَشرِ إِنجيل المَسِيح. فلنضَعْ خِلافَاتنا جانِبًا، ولنبدَأْ بالعَمَل مَعًا بِتَنَاغُمٍ، واضعين يدَنا على المحراث، غير ملتفتين إلى الوراء.
آبائي قادَةَ الكَنِيسَةِ، كَمَا بَكَى يَسُوع عَلَى أُورَشَلِيم، أراهُ يَبكِي اليَومَ عَلَى مَا وصَلنَا إِلَيهِ في كَنِيسَتِنَا.العالَمُ يُعاني: المَوتُ يُحِيطُ بِنَا، وَالكَرَاهِيَةُ تَسُودُ وتشتدّ، وَالدِّماءُ، وَالدَّمَارُ، وَالفَسَادُ، كلُّها تَعصُفُ بِنَا. العَائِلاتُ تَتَأَلَّم، وَالجَمِيعُ مُكتَئِب. فلا سبيلَ لنا إلاّ الوحدة الّتي تبني وتُسالمُ وتَصفَحُ وتَحترمُ. ولَن نَخَاف، فَالمَسِيحُ في مُؤَخّرَةِ السَّفِينَةِ، وعَلى الرّغمِ مِن هلَع الرُّسل، فسَيُنقِذُهَا مِنَ الغَرَقِ.
فَهلمُّوا إلى الوحدَة، وَلَنعمَلْ مَعًا بحُبٍّ يدًا بيَدٍ، لَيسَ فَقَط للسَّنَوَاتِ القَادِمَة بَل إلى الأَبَد. إذَّاك، نَعِيش رِسالَةَ المَسِيحِ بِقُلُوبٍ تَعكُسُ مَحَبَّتَهُ وَنَعِيمَهُ، وَلنَدَعْ نُورَ الحَقِّ يُشرِق مِن خِلالِنَا جَمِيعًا.
“ما أجمَلَ أَن يَجتَمِعَ الأخوَةُ مَعًا تَحتَ سَقفٍ وَاحِدٍ”. (مزمور ١٣٣: ١)
أَعزَّائي آبَاء الكَنِيسَةِ الأَفَاضِل وقادَتنَا الرُّوحِيّين،
لَقَد أَعلَنْتُم سَنة 2025 كَسَنَةِ يُوبيلِيَّة، تَحمِلُ الشِّعَار “حجَّاج الرَّجَاء”، ذَاكَ “الرَّجاء الّذي لا يُخَيِّب” (رومية 5:5). وكانَ هَدَفكُم “بناء عالَمٍ أَفضَل”. وقَد رَغِبتُم بأَن نَحتَفِلُ خلالَ هَذِه السَّنة المُبارَكة بِذِكرَى مرورِ 1700سنة لأوَّل مجمَعٍ مَسكُونيٍّ رئيسِي أُطلِقَ عَلَيهِ “مجمَع نيقيَة الأَوَّل”، وآنَذاك كانت مهمَّته: “الحِفاظ عَلى وحدَةِ الإِيمَان.” فَدعُونَا نَغتَنِمُ هَذِه الفرصَة بقُوَّةٍ لتَحقِيقِ مَشيئَةِ الله: “لكي لا يهلِكَ أحدُ مِنَ الّذينَ أعطانا إيّاهُم”، لِذَا نَاشِدُوا إِخوَتَكُم في الكَنائِس كافَةً كَي نَستَفِيدَ جَميعًا من اجتِماعاتِنا وصَلَواتِنا واحتِفالاتِنا لِتَحقِيقِ هَذِهِ المهمَّة ونَقُول مَع المَسِيح مُخَلّصنا: “لَقَد تَمّ”.
نَعَم، يُمكِن أَن تكُون هَذِه الذِّكرَى اليُوبيلِيّة بِمَثَابَةِ دَعوَةٍ لِجَمِيعِ الكَنائِس وَالمُجتَمَعَات الكَنَسِيَّة للتَّقَدُّمِ في مَسِيرَتِها نَحوَ الوحدَةِ المَنشُودَة.
بِمحبَّةٍ عَمِيقَةٍ وَنداءٍ مُخلِصٍ،
الخُوري جُوزف سوَيد.
الوَكيل البَطريركيّ للكَنيسة المارونيّة في المملكَةِ الأردُنِيَّة الهاشِميَّة
عَمّان في 7/ 9/ 2024