تأمل غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا

تأمل غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا:

مَرقُس ١٠: ٣٥ 

يَصعَدُ يَسوعُ إلى القُدسِ مع تلاميذِهِ الخائِفِينَ مِمَّا قد يُواجِهُونَهُ في المَدينَةِ المُقَدَّسَةِ. يُطْلِعُهُم يَسوعُ، في الواقِعِ، على ما يَنتَظِرُهُ: المَجدُ، الَّذي سَيَتَجَلَّى عِندَما يُرفَعُ على الصَّليبِ. لِلمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، يُعلِنُ يَسوعُ مَصِيرَهُ: الآلامُ، المَوتُ، والقِيامَةُ، وهي اللَّحظَةُ التي سَيُسلِّمُ فيها نَفسَهُ تَمامًا لِطاعَةِ الآبِ، باذِلًا نَفسَهُ.

في هذا السِّياقِ الدِّراميِّ، يَروي الإنجيليُّ مَرقُسُ أنَّ الأخوَينِ يَعقوبَ ويُوحَنَّا اقترَبَا من يَسوعَ ليسأَلاهُ سُؤالًا غريبًا بَعضَ الشَّيءِ. سُؤالًا يُعكَسُ فيهِ الأدوارُ، ويُطلَبُ من يَسوعَ أن يُطِيعَ إرادَتَهُما: “يا مُعَلِّمُ، نُريدُ أن تَصنَعَ لَنا ما نَسألُكَ” (مَرقُس ١٠: ٣٥).

طَلَبُهُما كانَ الحُصولَ على أماكِنَ مُمَيَّزَةٍ، حيثُ يَتمُّ الاعترافُ لَهُما بشَرَفٍ يُمَيِّزُهُما عن الآخَرِينَ: إنَّهُما لا يَطلُبَانِ فقط أن يَكونا في المَجدِ مع يَسوعَ، بَل أن يَكونا في أماكِنَ خاصَّةٍ، أن يَجلِسا عن يَمينِهِ وعن شِمالِهِ، كَمَن يَحتَلُّ المكانَ الأفضلَ: “اِمنَحنا أن يَجلِسَ أحدُنا عن يَمينِكَ، والآخَرُ عن شِمالِكَ في مَجدِكَ” (مَرقُس ١٠: ٣٧).

يُدرِكُ التلميذانِ أنَّ يَسوعَ على وَشكِ الدُّخولِ إلى القُدسِ، وأنَّهُ هُناكَ سَيَظهَرُ مَجدُهُ أخيرًا، ويَسعَيَانِ لِضَمانِ حِصَّةٍ من هذهِ الشُّهرَةِ والسُّلْطَةِ. يَفكِّرُ التلاميذُ في قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ ويُريدونَ الحُصولَ على جُزءٍ كَبيرٍ منها، بينما يَتَحَدَّثُ يَسوعُ عنِ الصَّليبِ.

إجابةُ يَسوعَ تَكشِفُ لَهُم أنَّ الدَّعوَةَ التي دُعِينَا إليها أعظَمُ من أيِّ شَرَفٍ بَشَرِيٍّ يُمكِنُ أن نَحصُلَ عليهِ في الحَياةِ. لِذلكَ، يُجيبُهُم يَسوعُ بأنَّهُم لا يَعرِفُونَ ما يَطلُبونَ: “إنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألانِ” (مَرقُس ١٠: ٣٨). ليسَ لأنَّهُم مُخطِئُونَ في طَلَبِ أعظَمِ ما في الحَياةِ والمَجدِ، بَل لأنَّهُم مَخدوعُونَ في تَحديدِ ماهِيَّةِ المَجدِ الحَقيقيِّ.

تَمُرُّ إجابةُ يَسوعَ بِثَلاثِ مراحِلَ:

المرحلةُ الأولى: يُحوِّلُ يَسوعُ الانتباهَ إلى الأساسِ، إلى ماهِيَّةِ المَجدِ الحَقيقيِّ: “أَتَستَطيعانِ أن تَشرَبا الكَأسَ التي سأَشرَبُها، أو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ التي سَأقبَلُها؟” (مَرقُس ١٠: ٣٨). الكَأسُ والمَعمودِيَّةُ هُما استِعارَتانِ لآلامِ ومَوتِ يَسوعَ. المَجدُ الحَقيقيُّ، إذًا، هو كَمالُ الحَياةِ المُعطاةِ بالمَجانِ، والتي تُبذَلُ لِتَمنَحَ الحَياةَ للجميعِ. الأمرُ لا يَتَعلَّقُ بِشَغلِ الأماكنِ، بَل بِتَقديمِ المَكانِ، بِتَقديمِ الحَياةِ.

كُلُّ إنسانٍ لَهُ قِيمَةٌ بِسَبَبِ قُدرَتِهِ على الحُبِّ، والحَياةُ تُقَدِّمُ الفُرَصَ لإثباتِ ذلكَ: في القُدسِ، سَتُقَدِّمُ الحَياةُ لِيَسوعَ كَأسًا لِلشُّربِ ومَعمودِيَّةً لِيُعَمَّدَ فيها. سَتُقَدِّمُ أحداثًا يَستَطيعُ فيها يَسوعُ أن يَختارَ المَجدَ، أي يُحِبُّ باستِمرارٍ، حَتَّى في خِضمِّ مُعاناةٍ بَشَرِيَّةٍ غَيرِ عادِلَةٍ.

هذا الاختيارُ، القُبولُ بِمَنطِقِ العَطاءِ والمَحَبَّةِ، هو ما يَبني الحَياةَ، هو ما يَجعَلُنا بَشَرًا. إذا تَخَلَّينا عن ذلكَ، يَبقى شَيءٌ مِنَّا غَيرَ مُكتَمِلٍ، ويَبقى خَارِجَ المَجدِ.

يُحاوِلُ التلاميذُ، كما لو كانوا يُريدونَ تَبريرَ أنفُسِهِم، القَولَ بأنَّهُم قادِرُونَ على العَيشِ بِهذهِ الطَّريقَةِ، على شُربِ هذهِ الكَأسِ، وعلى أن يُعَمَّدُوا في هذهِ المَعمودِيَّةِ: “فقالا له: نَستَطيعُ” (مَرقُس ١٠: ٣٩).

وهُنا تأتي المرحلةُ الثانيةُ.

إذا كانَ صَحيحًا أنَّ التلاميذَ يَطلُبونَ مواقِعَ قُوَّةٍ، فإنَّ يَسوعَ يُجيبُهُم بأنَّهُ عَلَيهِم أن يَتَخَلَّوا عن مواقِعِ السُّلْطَةِ والقُوَّةِ: ليسَ لَهُ أن يُقَرِّرَ مَن سَيَأمُرُ، ومَن سَيَجلِسُ عن يَمينِهِ أو عن شِمالِهِ. “ليسَ لي أن أَمنَحَهُ” (مَرقُس ١٠: ٤٠). فقط الآبُ يَستَطيعُ ذلكَ.

مَجدُ يَسوعَ لا يَتَوافَقُ مع السُّلْطَةِ البَشَرِيَّةِ، بَل مع طاعَتِه.

وإذا كُنَّا أبناءً، فَسَنَكونَ جَميعًا في المَجدِ، جَميعًا عن يَمينِهِ وشِمالِهِ، ولكن بِشَرطِ ألّا نَطلُبَ ذلكَ، وألّا نَستَبعِدَ الآخَرِينَ، كما حاوَلَ يَعقوبُ ويُوحَنَّا أن يَفعَلا.

إلى أيِّ مَدى كانَ مَنطِقُ السَّيطَرَةِ والسُّلْطَةِ مُنتَشِرًا بينَ التلاميذِ، نَراهُ في الجُزءِ التَّالِي من النَّصِّ: لأنَّ التلاميذَ الآخَرِينَ، عِندَ رُؤيَتِهِم لِما حَدَثَ، كانوا غاضِبِينَ من يَعقوبَ ويُوحَنَّا: “فَلَمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ استاؤوا من يَعقوبَ ويُوحَنَّا” (مَرقُس ١٠: ٤١)، كما لو أنَّهُم شَعَرُوا بالاستِبعادِ، مثلَ مَن يَغضَبُ عِندَما يُسلَبُ مِنهُ ما يَعتَقِدُ أنَّهُ حَقُّهُ.

الجُزءُ الثَّالِثُ من الإجابةِ، إذن، لَم يَعدْ مُوَجَّهًا للأخوَينِ فقط، بَل للجَميعِ، كما لو كانَ يَقولُ إنَّنا جَميعًا نُعانِي من هذا العَطَشِ لِلمَجدِ الَّذي يَسلُبُ مِنَّا فَرحةَ العَيشِ كإخوَةٍ.

الكَلِمَةُ الجديدةُ التي يُعَلِّمُها يَسوعُ مُعطِيًا نَظرَةً جديدةً حَولَ المَجدِ الحَقيقيِّ هي كَلِمَةُ الخِدمَةِ: “مَن أرادَ أن يَكونَ كَبيرًا فيكُم، فَليَكُنْ لَكُم خادِمًا” (مَرقُس ١٠: ٤٣).

الخِدمَةُ لا تُعاشُ كفَضِيلَةٍ أخلاقيَّةٍ، ولا من خِلالِ الجُهدِ، بَل بِالنَّظرِ إليهِ، الابنِ، الرَّبِّ: “لأنَّ ابنَ الإنسانِ لَم يَأتِ لِيُخدَمَ، بَل لِيَخدُمَ ويفدِيَ بِنَفسِهِ جَماعَةَ النَّاسِ” (مَرقُس ١٠: ٤٥).

هذا المَقطَعُ هو إشارَةٌ مُهِمَّةٌ على النَّهجِ، لأنَّهُ يُوضِّحُ الأسلوبَ المَسيحيَّ في التَّعامُلِ مع قَضايا العالَمِ، والسِّياسَةِ، والسُّلْطَةِ البَشَرِيَّةِ، والكِبرياءِ بِجَميعِ أشكالِهِ. لا يُمكِنُنا أن نَحصُلَ على يَسوعَ بِدونِ الصَّليبِ. فيهِ، لا نَحصُلُ فقط على غُفرانِ خَطايَانا من اللهِ بِسَبَبِ مَوتِ يَسوعَ (رَغمَ أنَّ هذا بالطَّبعِ أساسيٌّ).

الصَّليبُ هو طَريقَةُ اللهِ لِقَلبِ كُلِّ السُّلُطاتِ البَشَرِيَّةِ التي تُخادِعُ نَفسَها بأنَّها تَستَطيعُ إصلاحَ العالَمِ بِمَنطِقِ السُّلْطَةِ. في أفضَلِ الأحوالِ، قد يَستَبدِلُونَ شَكلًا من أشكالِ السُّلْطَةِ بآخَرَ. فقط مَنطِقُ الصَّليبِ يُمكِنُهُ أن يَتَحَدَّى الكِبرياءَ والمَجدَ البَشَرِيَّ.