الأحدُ الثلاثون من الزمنِ العاديِّ ب
مَرقُس 10، 46-5
نحنُ الآنَ على مشارفِ القُدسِ، وما نقرأُهُ اليومَ (مَرقُس 10، 46-52) هو آخرُ معجزةٍ يرويها الإنجيليُّ مرقُس. إنَّها آخرُ معجزةٍ، وهيَ أيضًا معجزةٌ ذاتُ دلالةٍ عميقةٍ ومعنىً رمزيٍّ كبيرٍ.
الشخصيةُ الرئيسيةُ هيَ رجلٌ أعمى، ومنَ الغريبِ أنَّ مرقُسَ يذكُرُ اسمَهُ: بَرتيماوس (مَرقُس 10، 46).
لأولِ مرةٍ نعرفُ اسمَ الشخصِ الذي يُشفيهِ يسوعُ، وهذا ليسَ بمحضِ الصدفةِ.
من خلالِ ذكرِ الاسمِ، يسعى الإنجيليُّ إلى الربطِ بينَ بَرتيماوسَ وبقيةِ الشخصياتِ في الإنجيلِ الذينَ نعرفُ أسماءَهم، أيِ التلاميذَ. بَرتيماوسُ هوَ في الواقعِ صورةُ التلميذِ الذي يتبعُ يسوعَ في رحلتِهِ نحوَ القدسِ.
في الآيةِ 49، يتكرَّرُ الفعلُ “دعا” ثلاثَ مراتٍ. كانَ يجلسُ بَرتيماوسُ على جانبِ الطريقِ، وعندما سمعَ بمرورِ يسوعَ، بدأَ يصرخُ بصوتٍ عالٍ طالبًا الرَّحمةَ.
ثمَّ توقَّفَ يسوعُ وأمرَ بأن يدعُوهُ، ونفسُ الأشخاصِ الذينَ كانوا يوبِّخونهُ من قبلُ ويطلبونَ منهُ السُّكوتَ، دعوهُ وقالوا له: “توقَّفَ يسوعُ وقالَ: «ادعُوهُ». فدعوا الأعمى قائلينَ له: «تشجَّعْ! قُم، إنَّهُ يدعوكَ!»”. بَرتيماوسُ هوَ شخصٌ مدعوٌّ، ودعوتُهُ تقولُ شيئًا عن حياةِ التلاميذِ الذينَ ليسوا أشخاصًا مثاليينَ، بل هم بحاجةٍ إلى الخلاصِ والنُّورِ كالجميعِ. يسوعُ يدعو أشخاصًا ضعفاءَ، وعندما يدعوهمْ، يستطيعُ أن يشفيَهمْ.
عندما سمعَ ذلكَ، قفزَ بَرتيماوسُ واقفًا، وتركَ رداءهُ وذهبَ إلى يسوعَ “فطرحَ رداءهُ، وقامَ وأتى إلى يسوعَ” (مَرقُس 10، 50). وهذاَ أيضًا دليلٌ آخرُ يعبرُ عن التلمذةِ. فالتلميذُ هوَ منْ يتركُ كلَّ ما يملكُ، كما فعلَ المدعوونَ الأوائلُ. ليسَ نتيجةَ جهدٍ إراديٍّ، بل لأنَّهُ وجدَ الكنزَ، شيئًا أكبرَ وأهمَّ من حياتِهِ بحدِّ ذاتِها.
وأخيرًا، دليلٌ آخرُ: بَرتيماوسُ، الذي دُعيَ وشُفيَ، لم يعُدْ جالسًا على جانبِ الطريقِ، بلْ يتبعُ يسوعَ كما دُعيَ التلاميذُ أن يتبعوهُ “وفي الحالِ أبصرَ وتبِعَهُ في الطريقِ” (مَرقُس 10، 52).
يخبرُنا بَرتيماوسُ أنَّ اتباعَ الربِّ يسوعَ لا يعني فقط المشيَ خلفَهُ في الطريقِ. إنَّ اتباعَهُ يعني أن ننظرَ إلى الحياةِ والمواقفِ بحدِّ ذاتِها، وتسميةِ الأشياءِ بأسمائها وذاتِ المعنى. لهذا السَّببِ، كانت المعجزةُ الأخيرةُ، المعجزةُ القادرةُ على تكوينِ تلميذٍ، شفاؤهُ منَ العمى، لأنَّ التلميذَ هوَ منْ يتعلمُ تدريجيًا رؤيةَ الأشياءِ من وجهةِ نظرِ اللهِ نفسِه.
كيفَ يحدثُ أنَّ هذا الرجلَ، المتسوِّلَ الأعمى، يصبحُ صورةَ التلميذِ، صورةً لنا جميعًا؟
بَرتيماوسُ هوَ أولاً شخصٌ لا يريدُ ولا يستطيعُ أن يصمتَ. نجِدُهُ صامتًا على جانبِ الطريقِ، لكنْ عندما يمرُّ يسوعُ، ينفجِرُ صراخًا، ولا شيءَ يمكنُ أن يوقفَهُ. لا يخافُ أن يكونَ جريئًا، فهكذا هوَ الإيمانُ.
بَرتيماوسُ شخصٌ يراهُ يسوعُ.
هوَ لا يتمكنُ بسببِ العمى أنْ يرى يسوعَ. لكنَّ يسوعَ يسمعُ صرختَهُ، كما يحدثُ دائمًا في الأحداثِ الكتابيةِ: يسمعُ اللهُ صرخةَ الفقيرِ ولا يتجاهلهُ. يتوقَّفُ يسوعُ (مَرقُس 10، 49) للاستماعِ إلى صرختِهِ، ولا يمرُّ دونَ أن ينظرَ إلى وجههِ ويجعلَهُ قادرًا على مبادلتِهِ النظرةَ.
في لقائِهِ معَ يسوعَ، يمرُّ بَرتيماوسُ بتغيراتٍ وجوديَّةٍ عميقةٍ. ينتقلُ منَ الصُّراخِ إلى الصلاةِ، ومنَ الجلوسِ إلى السَّيرِ في الطريقِ، ومنَ العمى إلى البصرِ، ومنَ التَّسوُّلِ إلى الحريةِ.
التلميذُ هوَ الشخصُ الذي يخرجُ من لقائِهِ معَ يسوعَ متغيِّرًا.
لا يمكنُ أن نبقى كما نحنُ، كما أرادَ ذلكَ الشخصُ الذي سألَ يسوعَ عمَّا يجبُ فعلُهُ ليرثَ الحياةَ (مَرقُس 10، 17)، ولكنَّهُ ذهبَ حزينًا لأنَّهُ لم يقبلْ الدُّخولَ في عمليةِ التَّغييرِ.
وأخيرًا، نجدُ مفتاحَ هذا التَّغييرِ في الآيةِ 51: “ماذا تريدُ أن أفعلَ لكَ؟”
تحدثُ التغيراتُ في حياتِنا عندما ندركُ، منْ بينِ آلافِ الرَّغباتِ التي بداخلِنا، تلكَ الرغبةَ العميقةَ والحقيقيةَ التي توحِّدُ وجودَنا. وهذاَ ما يحدثُ لنا أولاً في الصلاةِ، في علاقتِنا معَ الرَّبِّ، الذي يتوقفُ ليستمعَ إلى صرختِنا ويجعلَنا نسمعُ صوتَه.