عظةُ عيدِ سيدةِ فلسطينَ 2024

الإخوةُ الأساقفةُ الكرام، 

الأخواتُ والإخوةُ الأعزاء،  

ليكنْ سلامُ الربِّ معكم!  

كما في كلِّ عامٍ، نجتمعُ اليومَ في هذا المكانِ، عندَ أقدامِ شفيعةِ أبرشيتنا، سيدةِ فلسطين، لنصلّيَ أولًا من أجلِ كنيستنا، ومن أجلِ أرضنا المقدسة، ومن أجلِ جميعِ الشعوبِ. وكما هي الحال، نضعُ أمامَ العذراءِ آلامَنا وأتعابَنا. نجدُ أنفسَنا أمامَ وطأةِ هذه الحربِ التي أرهقتنا جميعًا كما لم يحدثْ من قبل. لا أودُّ تكرارَ ما قلتُه مرارًا حولَ الحربِ. لم نشهدْ في العقودِ الأخيرةِ قدرًا من العنفِ والكراهيةِ كهذا. باتَ من الصعبِ حقًّا رؤيةُ بصيصِ نورٍ في هذه الليلةِ الطويلةِ من الألم. 

ومعَ ذلك، لا نريدُ ولا يمكننا الاستسلامَ للغطرسةِ، ولقوةِ العنفِ، ولدائرةِ الانتقامِ، أو الوقوفَ مكتوفي الأيدي أمامَ هذا الدمارِ الإنساني. لذلك نحن هنا، طالبينَ شفاعةَ العذراءِ، أن تمنحَنا القوةَ والشجاعةَ لنواصلَ إيمانَنا بنعمةِ محبّةِ الله، ونسألَ القوةَ لنستمرَّ في أن نكونَ هنا، في الأرضِ المقدسة، جماعةً من الرجالِ والنساءِ الساعينَ لبناءِ علاقاتٍ قائمةٍ على الحياةِ، والمحبّةِ، والكرامةِ، والعدالةِ. 

القراءةُ من سفرِ الرؤيا تعبّرُ بطريقةٍ ما عن واقعِنا الذي نعيشُه. حيثُ يُذكرُ “تَنِّينٌ كَبِيرٌ أَحْمَرُ لَهُ سَبْعُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ، وَذَنَبُهُ جَرَّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ وَطَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ” (رؤيا 12: 3-4). إنها وصفٌ دقيقٌ لقوةِ الشرِّ في العالمِ، لسلطةِ الشيطان. الأرقامُ السبعةُ والعشرةُ هي أرقامٌ تدلُّ على الكمالِ، تشيرُ إلى القوةِ، وكذلك التيجانُ، وتوضحُ مدى قوةِ وسيطرةِ الشرِّ، وقدرتِه على التسببِ في دمارٍ هائلٍ. 

ولكن على الرغمِ من قوّتِه، فإنَّ هذا المسيطرَ غيرُ قادرٍ على إخضاعِ “المرأةِ المتسربلةِ بالشمسِ” ولا على الابنِ الذي على وشكِ أن تلده. هذا يذكرُنا بحقيقةٍ عظيمةٍ: في حياتِنا، سنواجهُ دائمًا الشرَّ الذي يسودُ في العالمِ. ولكن هذا الشرَّ، الشيطان، رغمَ قوّتِه العظيمةِ، فهو عاجزٌ أمامَ قوةِ امرأةٍ على وشكِ أن تلدَ طفلًا، أمامَ قوةِ المحبّةِ التي تولدُ الحياةَ. هناك، لا يجدُ الشرُّ، الشيطانُ، مجالًا للتجذرِ، لا يمكنُه أن يخدعَ بأكاذيبِه. لا يستطيعُ أيُّ تنينٍ أن ينتصرَ أمامَ المحبّةِ التي تُمنحُ؛ لا توجدُ أسلحةٌ فعّالةٌ ضدَّ من يمنحُ الحياةَ من أجلِ المحبّةِ.  

هذا هو إيمانُنا، وهذا ما نبني عليه حياتَنا كمؤمنينَ بالمسيحِ، على المحبّةِ التي تخلّصُ. تخلّصُنا من مخاوفِنا، من غطرسةِ السلطةِ البشريةِ، من أنانيّتِنا، من وهمِ القدرةِ على العيشِ بمفردِنا، من وهمِ إمكانيةِ تحقيقِ السعادةِ بالمالِ والسلطةِ، التي بدورِها تولّدُ الوحدةَ فقط.  

الإنجيلُ الذي سمعناهُ يصفُ لنا امرأتينِ، العذراءَ والقديسةَ أليصابات، تتهلّلانِ بعملِ اللهِ الفريدِ في حياتِهما. لا شيءَ خارقٌ للطبيعةِ في هذا اللقاءِ. لا نجومَ تسقطُ من السماءِ على الأرضِ، بل امرأتانِ في عالمٍ مليءٍ بالعنفِ آنذاك، تسعيانِ بطريقتِهِما الخاصةِ إلى تحقيقِ عملِ الخلاصِ، تحقيقِ ملكوتِ اللهِ. ببطءٍ، لكن بثباتٍ، سينتشرُ هذا الملكوتُ في العالمِ كله ويجعلُ حلمَ العدلِ والكرامةِ والحقِّ والسلامِ حقيقةً مرئيةً وملموسةً.  

نحن هنا اليومَ لنطلبَ هذه النعمةَ لنا وللكنيسةِ. نطلبُ نعمةَ الروحِ القدسِ، ليمنحَنا القوةَ، والشجاعةَ، والمثابرةَ حتى نستطيعَ خلقَ والحفاظَ على علاقاتِ الكرامةِ والسلامِ فيما بينَنا. لكي نكونَ في هذه الأرضِ التي تعاني الكثيرَ من العنفِ، المكانَ الذي لا يمكنُ لأيِّ تنينٍ أن يسيطرَ فيه. لكيلا نستسلمَ للمنطقِ الذي يقولُ إنَّه لا مجالَ لسعادةِ الآخرينَ من دونِنا. لكيلا نسمحَ للخوفِ، الذي قد يكونُ مبرَّرًا، بأن يكونَ الصوتَ الوحيدَ داخلَ قلوبِنا وفي سياقاتِ حياتِنا.  

نعلمُ أنَّ هذه الحربَ لن تنتهيَ قريبًا. نعلمُ أنَّنا لا نرى آفاقًا قريبًا للسلامِ. لكنَّنا على يقينٍ تامٍّ ونؤمنُ بكلمةِ الربِّ (لوقا 1: 45)، أنَّ الكلمةَ الأخيرةَ لن تكونَ للشرِّ في حياتِنا وفي الأرضِ المقدسةِ.  

نحنُ نرغبُ أن نكونَ تلكَ الكلمةَ الحيةَ، أن نكونَ الكنيسةَ التي تؤمنُ، وتأملُ، وتحبُّ، وتجعلُ حضورَ ملكوتِ اللهِ مرئيًّا بأعمالِنا وأقوالِنا. لن نستسلمَ أبدًا. وهنا، عندَ قدمي العذراءِ، نجددُ التزامَنا ببناءِ ملكوتِ اللهِ، ملكوتِ “عدلٍ وسلامٍ وفرحٍ في الروحِ القدسِ” (رومة 14: 17). آمين.