يُعتبَر المسيح الواسطة بين اللّه والإنسان، إذ يَعتبر بولس الرسول أنَه الشفيع الأوحد. تختصر هذه الآية قصة الخليقة بأكملها، وكيف أنّ الإنسان خُلِقَ على صورة اللّه ” فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم ” ( تك 1: 27 ). هذه الصورة التي تُكوِّن جزءًا جوهريًّا من جوهر اللّه الخالق. الذي حَرَّفها الإنسان بأنانيته عن البوصلة الصحيحة.
تُطالِعُنا الآية المذكورة آنفًا بأنّ اللّه قد صالحنا بالأقنوم الثاني، أي الكلمة المتجسِّدة بيسوع المسيح. هذه الآية المسيحانيّة بامتياز تُفضي بنا إلى عمق اللاهوت الكريستولوجيّ والمجتمعيّ.
إنّ المسيح المتجسِّد ( اللوغوس ) أصبح كلمةً حيّة، هذه الكلمة التي كانت في البَدء كما عبّر يوحنا الرسول في إنجيله أصبحت حيّةً ” في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى اللّه والكَلِمَةُ هو اللّه. كان في البَدءِ لَدى اللّه. به كانّ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانّ شَيءٌ مِمَّا كان. فيهِ كانَتِ الحَياة والحيَاةُ نورُ النَّاس ( يو 1: 1 _ 4 ).
إذ ننتقل من فعل الكلام المبشِّر بحضور المسيح مع الأنبياء إلى فعلِ محبةٍ عظيم مع يسوع المسيح الذي قاد البشرية إلى الخلاص. إذ برجلٍ واحد، وهو آدم القديم هَلَكَت البشرية، وبرجلٍ واحد تحَوَّلت البشرية إلى خلقٍ جديد عنوانه المحبة المبينة على البذل؛ هذا البذل قائم على المحبة الخالصة والنعمة الغير المنقوصة تُجاه الآخرين.
وهذه رمزيّة الصليب التي لا يُمكن للإنسان أن يصل إلى الله مهما علا شأنه الروحيّ دون العلاقة الأفقيّة مع الآخر التي تُكوِّن الصليب الذي كان أداةٌ عظمى للهلاك لأبرز المجرمين. ولكن أصبحت مع يسوع أداة خلاص للبشريّة جمعاء. هذه البشرية التي ارتقت بحضور المسيح آدم الجديد. الذي أعاد المشاركة الحقيقية في الخلق الجديّد القائم على الشريعة الجديدة المحفوظة داخل كل إنسان وهي شريعة المحبة، وهي من صفات جوهر الله داخل كل إنسان مؤمن ” فقَد سادَ المَوتُ مِن عَهْدِ آدَمَ إِلى عَهْدِ موسىى، سادَ حتَّى الَّذينَ لم يَرتَكبِوا خَطيئَةً تُشبِهُ مَعصِيةَ آدم، وهو صُورةٌ لِلَّذي سيَأَتي. ولكِن لَيَستِ الهِبَةُ كَمِثْلِ الزَّلَّة: فإِذا كانَت جَماعَةُ النَّاسِ قد ماتَت بِزَلَّةِ إنسانٍ واحِد، فِبالأَوْلى أَن تَفيضَ على جَماعَةِ النَّاس نِعمَةُ اللهِ والعَطاءُ المَمْنوحُ بِنعمَةِ إِنسانٍ واحِد، أَلا وهو يسوعُ المسيح . ( روم 5: 14_ 15 ).
ويُطالعنا الكتاب المقدس أنّه ” إِذا قالَ أَحَد: ” إنِّي أُحِبُّ الله ” وهو يُبِغُض أَخاه انَ كاذِبًا لِأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه ( 1 يو 4: 20 ). ويقول أيضًا بولس الرسول: ” لو تَكَلَّمتُ بٍلغُاتِ النَّاسِ والمَلائِكة، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا إلَّا نُحاسٌ يَطِنُّ أَو صَنْجٌ يَرِنّ. ولَو كانَت لي مَوهِبةُ النُّبُوءَة وكُنتُ عالِمًا بِجَميعِ الأَسرارِ وبالمَعرِفَةِ كُلِّها، ولَو كانَ لِيَ الإِيمانُ الكامِلُ فأَنقُلَ الجِبال، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء ” ( 1 كو 13: 2 ). فإذًا هذه العلاقة الشاقولية، لا تكتمل إلاّ بالمد الأفقيّ القائم على محبة خالصة تعتمد البذل والتضحية. فهذه الآية تتعمّق وتُبرز إرادة الله تُجاه الإنسان، ألا وهي عيش المحبة تُجاه كل قريب ” من هو قريبك ” فهل يتجاوب الإنسان مع هذه الإرادة؟