تأمل غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: الأحدُ الحادي والثلاثونَ منَ الزَّمَنِ العاديِّ – ب

الأحدُ الحادي والثلاثونَ منَ الزَّمَنِ العاديِّ – ب

مرقس 12 ,28-32

تأمَّلْنا في الأحدِ الماضي، أنَّ محبَّةَ يسوعَ لشخصٍ ما تجعلهُ يقفُ أمامهُ ومِنْ أجلِهِ: من أريحا، يتجهُ يسوعُ نحوَ القدسِ ليبذُلَ حياتَه. لكنْ خلالَ هذا المسيرِ لخلاصِنا، يقفُ لِيَهْتَمَّ بألمِ ذلكَ الشَّخصِ، برطيماوسَ الذي يصرخُ ويطلبُ منهُ استعادةَ بصرهِ. فيتوقَّفُ يسوعُ، يلتقيهِ، ويشفيهِ.

إذًا، المحبَّةُ هيَ أيضًا التوقفُ والاستماعُ، والاهتمامُ.

في نصِّ اليوم، نرى أنَّ يسوعَ قد وصلَ إلى القدسِ، المدينةِ التي يصعدُ إليها حيثُ يجدُ الحُبَّ للهِ تعبيرًا ملموسًا ومرئيًّا: تقديمَ العبادةِ والتَّضحياتِ للهِ الواحدِ والرَّبِّ.

يأتي النصُّ في الهيكلِ، المكانِ الذي يسكُنُ فيه اللهُ، حيثُ يدخلُ الناسُ لعبادتهِ.

نحنُ في الفصلِ الثاني عشر من إنجيلِ مرقسَ، وفي الفصلِ السَّابقِ وصفٌ لدخولِ يسوعَ إلى المدينةِ المقدَّسةِ بصفةٍ رسميَّة. بعدَ دخولِهِ، يتوجَّهُ إلى الهيكلِ ويبدأُ حوارًا معَ القادةِ الدِّينيِّينَ ومعَ معلِّمي الشَّريعةِ الذينَ كانوا قد قرَّروا قتلَهُ. لم تُحسِّنْ هذهِ الحواراتُ من وضعِهِ. يتحدَّثُ يسوعُ بحريَّةٍ، وهذا لا يُساعِدُهُ في تحسينِ صورتِهِ. ومعَ ذلكَ، يتوقَّفُ مرَّةً أخرى ولا يتجنَّبُ اللِّقاءَ حتَّى معَ منْ هم معادونَ لهُ.

في هذا السِّياقِ، يروي مرقسُ الحوارَ بينَ يسوعَ وأحدِ الكتبةِ الذي يسألُهُ عنِ الوصيَّةِ الأولى: “أيُّ وصيَّةٍ هي الأولى من بينِ جميعِ الوصايا؟” (مرقس ١٢، ٢٨).

كانتِ الإجابةُ ببساطةٍ: الوصيَّةُ الأولى هيَ محبَّةُ اللهِ. لكنَّ يسوعَ لا يكتفي بهذا الرَّدِّ الأوَّليِّ، وكأنَّهُ يُريدُ أن يقولَ إنَّ هذا الجوابَ وحدهُ غيرُ كاملٍ، فيُضيفُ الوصيَّةَ الثَّانيةَ: “الوصيَّةُ الثَّانيةُ هي: أنْ تُحِبَّ قريبَكَ كنفسِكَ. ليسَ هناكَ وصيَّةٌ أعظمُ من هاتينِ” (مرقس ١٢، ٣١).

لا يكفي الصُّعودُ إلى القدسِ، والدُّخولُ إلى الهيكلِ وتمجيدُ اللهِ. ليسَ هذا وحدهُ كمالَ الشَّريعةِ. بل يتحقَّقُ كمالُ الشَّريعةِ أيضًا عبرَ المرورِ بأريحا، ويطلبُ التوقُّفَ أمامَ ألمِ الفقيرِ الذي لا يملكُ شيئًا ولا قيمةَ لهُ في نظرِ النَّاسِ. لا يمكنُ الصعودُ إلى القدسِ دونَ المرورِ بأريحا.

غالبًا ما يكونُ من السهلِ علينا اختيارُ شيءٍ وإقصاءُ شيءٍ آخر، ومحاولةُ تبسيطِ الحياةِ بإزالةِ شيءٍ ممَّا يجعلُ العيشَ والمحبَّةَ مُعقَّدَيْنِ.

إنَّ هدفَ مسيرةِ كلِّ شخصٍ هو الوصولُ إلى قلبٍ قادرٍ على الحُبِّ، إلا أنَّ الخطرَ هو الفصلُ بينَ المجالاتِ والمساحاتِ: يمكنني اختيارُ محبَّةِ اللهِ، دونَ القلقِ بشأنِ من هم حولي. أو العكس، يمكنني أنْ أُحِبَّ النَّاسَ بشغفٍ وأستبعدَ اللهَ من قلبي، كما لو أنَّ اللهَ لا علاقةَ لهُ بالاهتمامِ بالفقراءِ. وكأنَّ علينا أن نختارَ بينَ الاثنينِ.

يطلُبُ منَّا يسوعُ عكسَ ذلك، ألَّا نستبعِدَ أحدَهُما؛ فهذانِ الحُبَّانِ ليسا متعارضَيْنِ، ولا يتنافسانِ أبدًا. بل، لا يكتفي أحدُهُما بذاتِهِ، لأنَّ اللهَ والإنسانَ مُتَّحدانِ برابطٍ عميقٍ، بوحدةٍ سريَّةٍ: لا يمكنُ محبَّةُ اللهِ دونَ محبَّةِ الآخرِ. اللهُ لا يريدُ أن يكونَ محبوبًا بمفردهِ.

يؤيِّدُ الكاتبُ توجُّهَ يسوعَ، ويُكملُ بقولِهِ: “لقد أحسنتَ، يا معلِّم … محبَّتُهُ بكلِّ القلبِ، بكلِّ العقلِ، وبكلِّ القوَّةِ، ومحبَّةُ القريبِ كنفسِهِ هي أفضلُ من جميعِ المحرقاتِ والذَّبائحِ” (مرقس ١٢، ٣٢-٣٣).

عندما نفكِّرُ في أنَّ هذه الكلماتِ قيلتْ في الهيكلِ، حيثُ كانتْ معظمُ ديانةِ إسرائيلَ تدورُ حولَ المحرقاتِ والذَّبائحِ، نرى حقًّا أنَّ هذا الكاتبَ ليسَ بعيدًا عنْ ملكوتِ اللهِ (مرقس ١٢، ٣٤). لأنَّ ملكوتَ اللهِ هو تمامًا هذهِ التَّجربةُ للحبِّ المجانيِّ الذي نحصلُ عليه ويتوجَّبُ علينا مشاركتُهُ معَ الجميعِ، مثلَ برطيماوسَ ومعَ كلِّ منْ يجلسُ على جانبِ الطَّريقِ طالبًا الرَّحمةَ.