قام قداسة الباب فرنسيس صباح اليوم الثلاثاء ٥ تشرين الثاني نوفمبر بزيارة جامعة غريغوريانا الحبرية للقاء الجماعة الأكاديمية. وفي بداية كلمته تحدث الأب الأقدس عن الجمع بين المعهد الحبري البييبلي وجامعة غريغوريانا الحبرية والمعهد الحبري الشرقي والتي أصبحت كلها اليوم Collegium Maximum. وأضاف البابا أنه حين تلَقى اقتراح جمع هذه المؤسسات قد قبله مقتنعا بأن هذه ليست إعادة تنظيم إدارية بل فرصة لإعادة تثمين الرسالة التي أوكلها أساقفة رومان ولا تزال موكلة، إلى الرهبنة اليسوعية. وتابع قائلا للحضور إن هذا لم يكن من الممكن أن يسير بشكل صحيح إن كنتم قد جعلتم ما يوجهكم مجرد فعالية بدون رؤية مقتصرين على الجمع متجاهلين في المقابل ما يحدث في العالم وفي الكنيسة، ما يتطلب المزيد من الروحانية وإعادة تفكير في كل شيء من منظور الرسالة التي كلفنا بها يسوع المسيح، وأضاف إنهم كانوا في هذه الحالة سيفقدون كاريزما الرهبنة اليسوعية.
ثم تحدث البابا فرنسيس عن الدعوة التي تلقاها من الرئيس العام للرهبنة للمشاركة في هذا اللقاء وقال إنه قد سُئل لهذه المناسبة حول الدور المفترض لجامعة غريغوريانا الحبرية في زمننا هذا. وواصل الأب الأقدس أنه حين فكر في هذا الأمر تذكر عبارة من رسالة للقديس فرنسيس كسفاريوس تعود إلى سنة ١٥٤٤، حيث كتب: هناك أفكار دفعتني إلى أن آتي إلى هنا. وسلط البابا الضوء بالتالي على أن هذا القديس كان يريد أن يذهب إلى كل جامعات زمنه من أجل رفع صوته وتحفيز مَن لديهم معرفة أكثر من المحبة على أن يلمسوا ضرورة أن يكونوا مرسَلين انطلاقا من محبة الأخ. وواصل البابا أنه يريد أن يُذَكر الحضور بالأمر نفسه، بأنهم مرسلون انطلاقا من محبة الأخوة وأن عليهم أن يكونوا مستعدين لدعوة الرب، وشدد قداسته على أن الرب هو مَن يلهم الرسالة ومن يعضدها، ولا تعني الرسالة أن نحل محله بطموحاتنا التي قد تجعل مخططات الله تبدو بيروقراطية وفاترة، بل وغالبا ما يمنح هذا الأولوية لبرامجنا وتطلعاتنا لا لمشيئة العناية الإلهية. وتحدث الأب الأقدس عن الجامعة باعتباره المكان الذي يتم فيه التعبير عن الرسالة من خلال العمل التكويني ولكن باستخدام القلب. وتابع أن التكوين هو في المقام الأول العناية بالأشخاص أي أنه فعل محبة رقيق وثمين وحساس، وإلا فسيتحول التكوين إلى تصرف فكري فقط يصبح فيه الآخرون مجرد متفرجين يصفقون لنا أو صناديق علينا أن نملأها.
ومن هذا المنطلق تطرق البابا فرنسيس إلى كون القلب محور رسالته العامة الأخيرة Dilexit nos “لقد أحبنا”. وقال قداسته إن القلب هو المكان الذي منه تنطلق وإليه تعود أي علاقة، سواء مع الله أو مع الأخوة والأخوات. ثم عاد قداسته إلى تاريخ تأسيس جامعة غريغوريانا الحبرية وأشار إلى أن هذا كان قد حدث في زمن كان فيه التعليم امتيازا، وهو أمر لم ينته بعد. وهكذا أراح قداسته التشديد على الدعوة القديمة إلى أنسنة المعرفة وإلى إيقاد شعلة النعمة في الإنسان وإنعاشها، والاهتمام بالمتسامي في البحث وفي التعليم. وسأل البابا الحضور هنا إن كانوا يتأملون في تأثير الذكاء الاصطناعي على التعليم والبحث، وشدد على أنه لا يمكن لأية خوارزيميات أن تحل محل الشعر أو الفكاهة أو الحب. وأضاف أن الطلاب هم في حاجة إلى اكتشاف قوة المخيلة وإلى أن يدخلوا في علاقة مع مشاعرهم والتحلي بالقدرة على التعبير عنها. فهكذا يتعلمون أن يكونوا أنفسهم، في علاقة مع الأفكار الكبيرة على أساس إمكانيات كلٍّ منهم بدون سلبهم حرية القرار أو إطفاء فرح الاكتشاف أو حرمانهم من إمكانية الخطأ، فمن الأخطاء يتم التعلم.
ثم كانت المجانية من النقاط التي تحدث عنها البابا فرنسيس انطلاقا من تاريخ الجامعة اليسوعية، فقال إن المجانية هي ما يجعل الجميع خداما بدون أسياد، خداما أحدهم للآخر معترفا كلٌّ منهم بكرامة الآخر، بدون استثناء أحد. المجانية هي ما يجعلنا منفتحين على مفاجآت الله، هي ما يجعل المعلمين فاضلين وحكماء. المجانية تربي بدون تحكم وهي التي تكشف سر الله المحبة الذي هو القرب والشفقة والحنان، الذي يقوم بالخطوة الأولى نحو الجميع بدون استثناء، وذلك في عالم يبدو أنه قد فقد قلبه. ولهذا فهناك حاجة، وحسبما تابع قداسة البابا، إلى جامعة لها رائحة جسد الشعب ولا تدهس الاختلافات متوهمة بأن الوحدة هي التجانس، ولا تخشى التأثر الفاضل.
ومن بين ما تطرق إليه البابا فرنسيس في كلمته مدينة روما كمعلمة حسبما ذكر، حيث تحدث عما تم إنشاؤه وتشييده على مر التاريخ وما كان يُعتقد أنه لا يمكن أن يُهزم بينما لم يبق منه سوى أطلال، إلا أن النهر هو ما يواصل الجريان، فهو مَن هزم الزمن، قال الأب الأقدس مضيفا أن منطق الإنجيل يُظهر حقيقته مرة أخرى. للكسب من الضروري الخسارة، تابع البابا ثم تساءل ما الذي نحن مستعدون لأن نخسر أمام التحديات التي نواجهها، وأضاف أن العالم يحترق وأن جنون الحرب يغطي بظلال الموت كل رجاء، فماذا يمكننا أن نفعل؟ ماذا يمكننا ان نرجو؟ وواصل أن كلمة الخلاص لا يمكن أن تكون رهينة مَن يغذي الوهم من خلال انتصارات تملؤها الدماء بينما تبدو كلماتنا وقد تم تفريغها من الثقة في الرب المخلص. وتساءل قداسته هل أفكارنا تحاكي يسوع الذي كشف تواضع الله أم أنها تستخدمه لإخفاء الدنيوية التي أدانته عن ظلم وقتلته؟ ودعا البابا بالتالي إلى نزع السلاح عن كلماتنا، فلتكن كلماتنا متواضعة، فنحن في حاجة إلى فتح نظرة القلب وإلى تكوين على تكريم الكلمة التي تنمو في كل زمن.