أحتفل صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك أمس الأحد 10 تشرين الثاني 2024 “أحد السامري الرحيم” بالليترجيا الإلهية المقدسة في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون
وجاء في عظة صاحب الغبطة
السامري الرحيم
لوقا ۱۰: ۲5-۳۷
في اللقاء الذي حصل في إنجيل اليوم بين السيد المسيح وواحد من علماء الناموس “سؤالان طرحهما هذا الأخير على يسوع. على السؤال الأول يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية” أجاب يسوع عالم الناموس من داخل الناموس، أجابه بما تقوله شريعة موسى: “أحبب الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك وبكل قدرتك وبكل ذهنك وقريبك كنفسك”. أما على السؤال الثاني الذي أراد به عالم الناموس أن يزكي نفسه: “من هو قريبي”، فأجابه يسوع من خارج الناموس، أجابه بجواب ليس موجودًا في الشريعة الموسوية كما هو موجود الجواب الأول. أعطاه مثلا وترك له أن يستنتج بنفسه من هو قريبه وبالفعل استنتج عالم الناموس الاستنتاج الصحيح فقال له السيد المسيح: “إمض واصنع أنت أيضا كذلك”.
٠١- قريب أم بعيد؟
ما هو هذا الاستنتاج الصحيح؟ الاستنتاج الصحيح هو أن المسيحي ليس له إنسان قريب وإنسان بعيد، ليس له إنسان صديق وإنسان عدو. جميع الناس هم إخوة له. هذا ما كان أعلنه يسوع مرة حين قال: “سمعتم أنه قيل: “أحبب قريبك وأبغض عدوك”، أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم… لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (متى ٥: ٤٣-٤٦)؛ ومرة أخرى حين قال: “من أمي ومن إخوتي؟.. إنّ كلّ من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي” (متى ١٢ ٤٦ -٥٠). وهذا أيضا ما أعلنه بولس الرسول في الرسالة إلى أهل أفسس حيث يقول لنا إنا كلنا جسد واحد وروح واحد: “إن الجسد واحد والروح واحد، كما أنكم، بدعوتكم، قد دعيتم إلى الرجاء الواحد. وإن الرب واحد، والإيمان واحد، والمعمودية واحدة، والإله واحد، والآب واحد للجميع، وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع” (أف ٤: ٤-٦).
فلا تستطيع إذن، في عمل الرحمة والإحسان وفي غيره من الأعمال، أنّ نسمح لأنفسنا بأن نميز بين الناس وأنّ تفرق بينهم وتصنفهم بين قريب وعدو. لا نستطيع أن نتيح للعصبية والتحزب والفئوية، بجميع مظاهرها وألوانها، أن تتسرب إلينا وتسيطر على تفكيرنا وعاطفتنا وسلوكنا بحيث تحجب الرحمة عن أناس ونبسطها لأناس. ألم يقل لنا الرسول بولس: “ليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى ليس قريب ولا عدو، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع” (غلا ۳: ۲۸-۲۹). هذه هي الشريعة الجديدة التي أنشأها السيد المسيح والتي يريد أن يبني عليها العالم الجديد، عالم الأخوة والمساواة جميع الناس هم أقرباء لي وقريبون مني على هذا المفهوم بنت الكنيسة نظرتها إلى غير المسيحيين وبنت بنوع خاص عملها الاجتماعي منذ أن قامت إلى اليوم.
٢ – القريب هو من أذهب إليه
ولكن، ما هي هذه القرابة التي يتكلم عنها السيد المسيح، ما هو جوهرها، علام تقوم؟ ما الذي يجعل من فلان قريبا لي؟ كيف يكون جميع الناس أقرباء لي؟ من المثل الذي ضربه يسوع نستنتج أن قريبي ليس الذي يربطني به الدم ولا المجتمع ولا العقيدة ولا القومية ولا الدين… أو لنقل إذا شئنا إن هذه قد تكون من العناصر المكونة للقرابة. إن قريبي في نظر يسوع هو الذي أذهب أنا إليه، هو الذي أقصده أنا، هو الذي أتقرب أنا منه، هو الذي أجعله أنا قريبا لي.. وبالتالي أنا أحدد قريبي، أنا أختار قريبي قريبي لا يفرض على القريب ليس معطى متوفرا، جاهزا، أجده أينما كان واقع عليه كيفما كان. إن القرابة تصنع ولا تعطى وهذه القرابة هي ضرورية في سائر أشكال القرابة. هكذا الرجل اليهودي الذي وقع بين أيدي اللصوص لم يشعر ولم ير نفسه قريبا لابن قومه ودينه، للكاهن وللاوي اللذين مالا عنه وابتعدا، بل شعر ورأى نفسه قريبا لذلك السامري الذي مال إليه وتقرب منه ولم يكن من قومه ولا من طائفته بل كان في
نظر اليهود عدوا.
سأل عالم الناموس السيد “من هو قريبي”، وفي الختام سأله السيد بدوره ومن تراه قريبا للذي وقع على اللصوص”. قلب السيد الواقع السائد والمفاهيم السائدة. لقد كان عالم الشريعة يعتقد أن على الآخرين أن يتقربوا منه وإذا بالسيد يقول له عليك أنت أن تتقرب من الآخرين أيا كانوا فليس قريبي إذن هو الذي يتقرب مني بل الذي أتقرب أنا منة
3- القريب هو المهمل
القريب إذن هو من أذهب إليه وأبحث عنه. ولكن من هو قريبي بالتحديد وبالدرجة الأولى؟ أو بالحري هل هناك قريب أقرب أو أبدى من غيره؟ بحسب مثل السامري الرحيم القريب هو ذاك الذي عراه الناس فأصبح من دون شيء حتى من ثيابه، وأوسعوه ضربا ورموا به، إنه الذي أهمله الناس وهمشوه ونبذوه وعزلوه وظلموه وحقروه، الذي شوهه الناس فما عاد له وجه ولا هيئة ولا منظر … هذا هو قريبي بالدرجة الأولى. إنه الفقير بشتى أنواع الفقر المادي والروحي. وفيما يتعلق بالفقر الروحي تجدر الإشارة هنا إلى أن قريبي هو أيضًا الخاطئ، ذاك الذي ترك المسيح من أجله التسعة والتسعين وجد في طلبه حتى وجده ورفعه على منكبيه، ومات من أجله على الصليب لكي لا يضل من جديد. لا بل في مثل السامري الرحيم أيضا ما هو أكثر من ذلك وهو أن القرابة في المفهوم الإنجيلي تمتد لتشمل الأعداء، فإن اليهود كان يعدون السامريين أعداء لهم. ومثل السامري الرحيم لا يخرج عن تعليم السيد المسيح الذي علمنا أن تحب أعداءنا وتبارك لاعنينا ونصلي من أجل الذي يضهدوننا (متى ٤٣-٤٤).
٤ – على مثال المسيح
في هذه الأيام التي كادت تقضي على هويتنا بحيث ما عدنا نعرف من قريب لمن ومن عدو لمن، من مع من ومن على من، فلنتذكر أننا نحن الذين يصنعون القرابة بمحبتنا ونحن الذين يصنعون العداوة بكراهيتنا. ولكي تغلب القرابة على العداوة علينا أن نكون ملتصقين بالمسيح، عائشين في صداقة معه هو سلامنا. “بعدنا عن الله متوقف علينا لأنه هو دائما قريب منا”. أجل، فكما جاء المسيح إلينا وجعلنا قريبين إليه بصنعه الرحمة والإحسان إلينا، هكذا نحن نذهب إلى الناس أجمعين ونجعل منهم أقرباء لنا. لذلك علينا أن نقاوم كل ميل فينا إلى الانعزال والتقوقع والمحافظة على ما نرى فيه مكاسب وامتيازات وحقوق وما إليها، وعلينا أن نبذل لذلك ما لدينا، كما بذل المسيح نفسه، وكما بذل السامري خمرا وزيتا ومالاً ليخلص ذلك اليهودي ويجعل منه قريبا إليه.
٥ – ملحق
في هذه المناسبة أود أن أعلمكم بأن قدس الأرشمندريت المحبوب الأب جان حنا الذي تعرفونه كلكم والذي خدم هذه الرعية على مدى أكثر من سنتين في حاجة إلى فترة من الراحة والنقاهة بعد الوعكة الصحية التي ألمت به منذ أشهر والتي يتم على علم بها، وقد عينا لخدمتكم كاهنا آخر هو حضرة الأب سلامة سلامة الذي كان يخدم في رعية إبراهيم الخليل بالكشكول. فإذ نرحب بالكاهن الجديد متمنين له النجاح والقداسة في خدمته مع أخويه الأبوين ميشيل ديراني وفادي حمصي نشكر قدس الأرشمندريت جان على الخدمة التي خدم بها رعية الكاتدرائية بالمحبة والوداعة والصبر وطول الأناة والتفاني والأمانة والود والابتسامة والعطاء المتجرد، وبذل الصحة، متضرعين إلى الرب الإله أن يسربله بثوب العافية الكاملة ويمد بعمره سنين كثيرة وأن يعود إلى الخدمة في أقرب وقت. آمين.
الكنيسة الكاتدرائية، دمشق، في ٢٠٢٤/١١/١٠