“لا يمكننا الاستسلام لحتمية الحرب! آمل بصدق أن يثير هذا اليوم الحزين، اليوم الألف منذ بداية الحرب الواسعة النطاق ضد أوكرانيا، هزة مسؤولية لدى الجميع ولاسيما لدى الذين يمكنهم وقف المذبحة القائمة”. هذا ما أكّده الكاردينال بيترو بارولين أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان في مقابلة مع وسائل الإعلام الفاتيكانيّة عشية مغادرته للمشاركة في مجموعة العشرين في البرازيل. هذا وكان أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان قد زار أوكرانيا في تموز يوليو الماضي، حيث زار لفيف وأوديسا وكييف.
في جوابه على سؤال حول شعوره في هذه المناسبة قال الكاردينال بارولين لا يمكنه أن يكون سوى الشعور بحزن عميق، لأنه لا يمكن للمرء أن يعتاد أو أن يبقى غير مبالٍ بالأخبار التي تصلنا كل يوم وتتحدث عن الموت والدمار. إن أوكرانيا هي بلد يتعرّض للاعتداءات، ويشهد على تضحية أجيال كاملة من الرجال، والشباب، الذين انتُزعوا من الدراسة والعمل والعائلة ليتمَّ إرسالهم إلى الخطوط الأمامية؛ ويختبر مأساة الذين يرون أحبائهم يموتون تحت القنابل أو تحت ضربات الطائرات بدون طيار؛ ويرى معاناة الذين فقدوا منازلهم أو يعيشون في ظروف صعبة بسبب الحرب.
تابع أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان مجيبًا على سؤال حول ما يمكننا فعله لمساعدة أوكرانيا وقال أولاً، كمؤمنين مسيحيين، يمكننا وعلينا أن نصلي. وأن نتوسّل من الله أن يهدي قلوب “أمراء الحرب”. علينا أن نستمر في طلب شفاعة العذراء مريم، الأم التي تُكرَّم بشكل خاص في تلك الأراضي التي نالت المعمودية منذ قرون عديدة. ثانيًا، يمكننا أن نلتزم جاهدين لكي لا يغيب أبدًا تضامننا مع الذين يتألمون والذين يحتاجون إلى العناية، والذين يعانون من البرد، والذين يحتاجون إلى كل شيء. إنَّ الكنيسة في أوكرانيا تقوم بالكثير من أجل السكان من خلال مشاركتهم يومًا بعد يوم مصير بلد يعيش الحرب. ثالثًا، يمكننا أن نُسمع صوتنا، كجماعة، كشعب، لكي نطلب السلام. يمكننا أن نُسمِع صرختنا، وأن نطالب بأن تُسمع مطالب السلام، وأن تؤخذ بعين الاعتبار. يمكننا أن نقول لا للحرب، لسباق التسلح المجنون الذي لا يزال البابا فرنسيس يندد به. إن الشعور بالعجز أمام ما يحدث هو أمر مفهوم، لكن الأصح هو أننا معًا، كعائلة بشرية واحدة، يمكننا أن نفعل الكثير.
أضاف الكاردينال بارولين مجيبًا على سؤال حول ما هو المطلوب اليوم لوقف قعقعة السلاح على الأقل وقال من المنصف أن نقول “لوقف قعقعة السلاح على الأقل”. لأن التفاوض على السلام العادل يستغرق وقتًا، في حين أن وقف إطلاق النار الذي تشترك فيه جميع الأطراف – والذي يمكن أن يتمّ أولاً بفضل روسيا التي بدأت النزاع والتي من المفترض أن توقف العدوان – يمكنه أن يتمّ حتى في غضون ساعات قليلة إذا أرادت ذلك. وكما يكرّر الأب الأقدس مرارًا نحن بحاجة لأشخاص يراهنون على السلام وليس على الحرب، أشخاص يدركون المسؤولية الهائلة التي يمثلها الاستمرار في نزاع ذي نتائج شريرة ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا وإنما أيضًا لأوروبا بأسرها والعالم بأسره. حرب تخاطر بجرّنا إلى مواجهة نووية، أي إلى الهاوية. إنَّ الكرسي الرسولي يحاول أن يبذل كل ما في وسعه للحفاظ على قنوات الحوار مع الجميع، ولكن هنام شعور وكأننا أعدنا ساعة التاريخ إلى الوراء. يبدو أن العمل الدبلوماسي، وصبر الحوار، وإبداع التفاوض قد اختفوا، وأنهم مجرّد إرث من الماضي. والضحايا الأبرياء هم الذين يدفعون الثمن. إنَّ الحرب تسرق المستقبل من أجيال من الأطفال والشباب، وتخلق الانقسامات وتؤجج الكراهية. ما أحوجنا إلى رجال دولة ذوي نظرة بعيدة النظر، قادرين على القيام بلفتات تواضع شجاعة، وقادرين على التفكير في خير شعوبهم. لأربعين سنة خلت، تم التوقيع في روما على معاهدة السلام بين الأرجنتين وتشيلي، وحل النزاع حول قناة بيغل بوساطة الكرسي الرسولي. قبل ذلك ببضع سنوات، كان البلدان قد وصلا إلى عتبة الحرب، ولكن توقف كل شيء بفضل الله: تم انقاذ الكثير من الأرواح، وتم تجنب الكثير من الدموع. لماذا لا يمكن إيجاد هذه الروح اليوم مجدّدًا، في قلب أوروبا؟
وخلص أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان مجيبًا على سؤال حول إن كان يعتقد أن هناك مجالًا للتفاوض اليوم وقال حتى لو لم تكن العلامات إيجابية، إلا أنَّ التفاوض ممكن دائمًا ومرغوب فيه لجميع الذين يقدّرون قداسة الحياة البشرية. إن التفاوض ليس علامة ضعف بل علامة شجاعة. إن درب “المفاوضات الصادقة” ودرب “التنازلات المشرّفة”، وأشير هنا إلى كلمات البابا فرنسيس في زيارته الأخيرة إلى لوكسمبورغ وبلجيكا، ودرب الحوار هي الدرب الأساسية التي ينبغي أن يسلكها الذين يحملون مصائر الشعوب بين أيديهم، حوار لا يمكن أن يتمّ إلا عندما يكون هناك حد أدنى من الثقة بين الأطراف. وهذا يتطلب حسن النية من الجميع. فإذا لم يثق أحدهم، على الأقل بالحد الأدنى، بالآخر، وإذا لم يتمَّ التصرّف بصدق يبقى كل شيء معلّقًا. وهكذا في أوكرانيا، وفي الأرض المقدسة كما في العديد من المناطق الأخرى في العالم، يستمر القتال والموت. لا يمكننا أن نستسلم لحتمية الحرب! آمل بصدق أن يثير هذا اليوم الحزين، اليوم الألف منذ بداية الحرب الواسعة النطاق ضد أوكرانيا، هزة مسؤولية لدى الجميع ولاسيما لدى الذين يمكنهم وقف المذبحة القائمة.