“الإستقلال”، بقلم الأب الياس كرم

أيُّ ذكرى مؤلمة هذه التي تُثقل كاهلنا عامًا بعد عام، وكأنّ التاريخ يأبى أن يمنح لبنان فرصة للراحة أو الاستقرار. نحن بلدٌ تُحيط به لعنة التنازع، حيث الحرب، والدمار، والتبعية تتوالى حلقاتها كأنّها قدرٌ محتوم. تأتي ذكرى الإستقلال هذا العام ولبنان جريحٌ، تُنهشه أظفار القصف والغدر، وكأنّ الإستقلال في قاموسنا لا يعني الحرية، بل استمرار العبودية، ولكن تحت مسميات جديدة.

ما أكثر الأصوات التي تترحم على عهد الانتداب الفرنسي، ولا عجب في ذلك. فحين ننظر إلى وطنٍ تمزّقه الطائفية، وتنهشه أنياب الانقسام، يبدو ذلك الترحم منطقيًا. لقد فشلنا، وما زلنا نفشل، في أن نصبح شعبًا ناضجًا قادرًا على إدارة نفسه. نحن مجموعات متناحرة، تحكمها مخاوفها القديمة، وتغذّيها مصالح ضيقة ومشاريع خارجية لا تترك مجالًا للهوية الوطنية الحقيقية.

الانتداب، وإن كان قيدًا على السيادة، أتى بمنظومة قوانين ونُظم أرسَت أساسًا للإدارة والتنظيم المدني والثقافة. ومع أن الحرية كانت حلمًا عظيمًا، إلا أنّ ما أعقب الإستقلال كان خيبة مريرة. فالزعامات التي رفعت راية الإستقلال أضحت من التاريخ المجيد، وتحوّلت الزعامات فيما بعد إلى أرباب مزارع طائفية، واستُبيحت الدولة لتحويلها إلى وسيلة لخدمة المصالح الشخصية، بدلًا من بناء وطن يحتضن الجميع.

تُعيدنا ذكرى الإستقلال إلى حقبةٍ لم يكن فيها الفساد هو الحاكم المطلق. عهد الرئيس فؤاد شهاب كان استثناءً قصير الأجل، حيث حاول بناء دولة مؤسسات تتجاوز الطائفية والمصالح الشخصية. لكن إرثه لم يصمد أمام أمواج النفاق والولاءات المبعثرة، لتبقى الدولة كيانًا هشًا، يُدار بعقلية القطيع.

إن الترحّم على الانتداب ليس حنينًا إلى عبودية مستعمر، بل اعترافًا مؤلمًا بأننا، رغم الإستقلال، لم نتحرر فعليًا. لم ندرك بعد معنى الوطن، ولم نتعلم كيف نحكم أنفسنا بنزاهة وعدل. فما قيمة الإستقلال حين يكون الفساد سيد المشهد، والعدالة عمياء، والحرية وهمًا؟

اليوم، ونحن نحيي ذكرى الإستقلال، نتساءل: أي استقلال هذا الذي نتغنّى به؟ استقلال الشعب عن دولته؟ استقلال الوطن عن أبنائه؟ أم استقلال النفاق عن أي مظهر من مظاهر الوطنية؟.

إنها دعوةٌ للعودة إلى الذات، لإعادة تعريف معنى الإستقلال، لتجاوز قيود الطائفية والخوف، ولتذكّر أنّ الوطن هو مسؤولية، لا إرث يُنهب ولا مزرعة تُقتسم.