قبل حلول يوم العنصرة، لم يكن تلاميذ المسيح يختلفون عن باقي اليهود في فهمهم لأحاديث السيد المسيح عن ملكوت السماوات، إذ استوعبوها بمعناها المادي والزمني المحدود. لذلك، شغلتهم فكرة المراكز والمناصب، كما يظهر في طلب يعقوب ويوحنا للجلوس عن يمين ويسار المسيح في مجده: “فَقَالاَ لَهُ: أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ” (مرقس ١٠: ٣٧).
أجابهم المسيح كاشفًا التباين العميق بين خطة الله لخلاص الإنسان والفكر البشري المحدود المنغمس في الأرضيات وأمجادها الفانية. أوضح أن في ناموسه لا وجود لمفهوم المناصب، بل جوهر الناموس يتجسد في سر الصليب، الذي يعني شركة الآلام والموت. هذا المصير سيكون بالفعل ليعقوب ويوحنا، لكن الجلوس عن يمينه ويساره هو مكافأة تُمنح لمن يسعى بجهد وإخلاص ويحب الله بحق. فالله في عدله المطلق لا يحابي، بل يكافئ كل إنسان “بحسب تعبه” (١ كورنثوس ٣: ٨). لاحظ الرسول بولس أنه قال “بحسب تعبه” وليس “بحسب نجاحه”، لأن النجاح هو عمل الله، أما الخادم فلا يعدو كونه أداة؛ والمعيار هو التعب في العمل.
منذ بدء الخليقة، تنجذب البشرية إلى مغريات المناصب حبًّا في السلطة والوجاهة والمال. هذه المشاعر البشرية لا تزال تحكم الغالبية وتدفع البعض إلى الغيظ والحسد والعتب إن لم يصلوا إلى مبتغاهم من المناصب، كما حدث مع باقي التلاميذ عندما طلب يعقوب ويوحنا ذلك الشرف. وعندما لاحظ المسيح هذا الأمر، بدأ بتصحيح مفاهيمهم، مبيّنًا لهم أن العظمة الحقيقية في ملكوت السماوات ليست في التسلّط والسيادة كما في العالم، بل في التواضع والخدمة.
في عظة سيامة المثلث الرحمات المطران بولس بندلي، وجه إليه المطران جورج خضر كلمات خالدة: “لقد لاحظناك أسقفًا”. إذ رأى المجمع الأنطاكي في المطران بندلي صفاتٍ تؤهله لهذا المنصب، فهو تمثل بتعاليم المسيح في التواضع والبذل وبشاشة الوجه. لقد أدرك بندلي أن من يطمح إلى مكانة رفيعة في الملكوت، عليه أن يتخلى عن كبريائه ويخدم الآخرين كعبد لا حقوق له. اتخذ المسيح مثالًا في التواضع، إذ لم يأتِ ليحظى بمكانة يخدمه فيها الكثيرون، بل جاء ليخدم الجميع ويفديهم بموته، مؤكداً: “أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (متى ٢٠: ٢٨). أما من يسعى لمنصب بدافع التحكم بالآخرين والوجاهة والمكانة والعظمة والأبّهة، فعليه أن ينسى ملكوت السماوات.
فهل تبحث عما تقدمه من خدمة ومؤازرة للآخرين وكيف تخضع لهم، أم أنك تلهث وراء مكانتك وكرامتك واعتبارك بينهم؟ ليتك تبدأ اليوم بخدمة الجميع بتواضع، لترتفع في نظر الله.