هل ما زالت الجموع تزدحم لتسمع كلمة الله بقلم القس سامر عازر

“وكان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله” (لوقا ٥: ١–١١).. هكذا تبدأ رواية لوقا البشير في الأصحاح الخامس، وكأنّ الروح القدس يريد أن يلفتَ انتباهنا إلى شيء افتقدناه كثيرًا في أيامنا هذه: الاشتياق إلى الكلمة.

الناس في ذلك الزمان، رغم صعوبات الحياة وقساوة الظروف، كانوا يتوافدون ليسمعوا الكلمة. لم يكونوا يبحثون عن مجرد أعجوبة أو عن مصلحة، بل كانوا يتدافعون بلهفة لسماع كلمة الله.
أما اليوم، فيا للأسف، نرى الجموع تزدحم على كل شيء إلا الكنائس، وتطلب كل صوت إلا صوت الرب.

لقد أصبح الناس منشغلين، لا بل غارقين في عالم مليء بالأصوات المتنافرة، التي تُلهي وتُشتّت وتُميت الإيمان الحيّ في القلب. لم تَعُدْ الكنيسة أولوية في حياة كثيرين، ولم تعُد الكلمة تُسمع في صمتٍ وخشوع، بل غالبًا ما تُستبدَل برسائل عابرة، أو تقف عند حدود الوعظ التقليدي، دون أن تُلامس عمقَ النفس.

وفي هذا المشهد الإنجيلي، نرى يسوع يصعد إلى سفينة سمعان ويطلب أن يبتعد قليلًا عن البَّر ليعلّم الجموع. وهنا تتحوّل السفينة إلى منبر، والبحر إلى هيكل، والصياد إلى تلميذ.

في مشهد الصيادين على شاطئ بحيرة جنيسارت/طبريا، نجد رمزًا عميقًا لحال البشرية: شباكٌ فارغة، تعبٌ بلا حصاد، ليلٌ طويل بلا جدوى. ولكن ما إن دخل يسوع السفينة وتكلّم، حتى تحوّلت السفينة إلى منبر، والشاطئ إلى كنيسة، والقلوب إلى تربة صالحة. ثم جاء الأمر الإلهي: “القوا شباككم” – فامتلأت الشباك حتى كادت تتخرق أي حلّت البركة.

أليست هذه صورة لما يجب أن تكون عليه حياتنا؟ أن نسمح ليسوع أن يصعد إلى سفينة كل واحد منّا، ليصنع منها منبرًا للحق والنور؟
فالجموع لم تزدحم حول يسوع صدفة، بل لأنهم رأوا فيه الكلمة التي تحيي، والمعلّم الذي يتكلّم كمن له سلطان، لا كالكَتبة والفرّيسيين.

نعم، هناك اليوم عزوف عن الكنائس، لا يمكن إنكاره، لكن علينا أن نبحث عن أسبابه بصدق: هل فقدت الكلمة بريقها في أعين الناس، أم فقدنا نحن، ككنيسة، حرارتها ومصداقيتها؟ هل تعِبَ الناس من سماع كلمات لا تغيّر؟ أم أنهم لم يعودوا يرون فينا نورًا يقودهم إلى المسيح؟

قال القديس يوحنا الذهبي الفم:
“كما أن الجسد لا يقدر أن يحيا بلا طعام، كذلك النفس لا تقدر أن تحيا بلا الكلمة.”
َفإذا كانت الجموع لا تأتي، فلأنها لا ترى أمامها خبز الحياة، بل قشورًا ميتة. نحن مدعوون لأن نعود إلى تقديم الكلمة بقوتها الأولى، بصدقها، بملحها، بحرارتها. الكلمة التي لا تُساوِم، ولا تُجامِل، بل تجرحُ لتشفي، وتوبّخُ لتُقيم، وتدعوَ لتخلّص.

ربما لا نرى اليوم مرافئ مكتظة بالسامعين، لكن القلوب الجائعة موجودة، والبحر لا يزال واسعًا، والسفن متروكة على الشاطئ تنتظر أن يصعد الرب إليها. فلنفتح له سفننا، بيوتنا، قلوبنا. لنجعلها منابر حقيقية تنقل الكلمة الحيّة للعالم.

وما أحلى نهاية المشهد: “ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر، تركوا كل شيء وتبعوه”…
فمن يسمع الكلمة حقًا، لا يعود كما كان، بل ينهض، ويتبع، ويصير شاهدًا لها.