لماذا أشبعَ المسيحُ الجِيَاع؟بقلم القس سامر عازر

في بداية الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا، نلتقي بمشهد رائع تختلط فيه حاجة الجسد بحاجة الروح، ويدخل فيه المسيح إلى أعماق الإنسان، لا ليملأ بطنه فقط، بل ليوقظ فيه جوعًا آخر، أعمق وأصدق، هو الجوع إلى الله وكلمته المقدّسة.

كانت الجموع تتبعه بعدما رأت آياته على المرضى. اجتذبهم مشهد الشفاء، ولكن المسيح أراد أن يجتذب قلوبهم لما هو أعمق. لم يرد أن يكون مجرد صانع معجزات أو موزع خبز، بل خبزًا نفسه. ففي يوم جاع فيه الآلاف على ضفاف بحيرة طبريا، لم يرسلهم ليشتروا طعامًا، بل أخذ القليل من الخبز والسمك، وباركه، وكسره، وأشبع الجميع، وفضل عنهم.

لكن السؤال الحقيقي ليس فقط: “كيف أشبعهم؟” بل: “لماذا أشبعهم؟”

لقد أشبعهم لأنه رأى في جوعهم الجسدي رمزًا لجوع روحي أعظم. رأى قلوبًا تبحث عن شيء أكثر من الطعام؛ تبحث عن معنى، عن محبة، عن أمان، عن شبع داخلي لا توفره مائدة فاخرة. وهنا يكمن جوهر الرسالة: الجسد يحتاج إلى خبز ليبقى حيًا، ولكن الروح أيضًا تحتاج إلى خبز آخر لتبقى حيّة، ثابتة، ومثمرة. وهذا الخبز هو كلمة الله النازلة من السماء.

أشبعهم المسيح لأنه أراد أن يعلّم تلاميذه أن القليل إذا وُضع بين يديه، يكفي ويزيد. وأنه حين ننكسر أمامه، كما انكسر الخبز، يمكن أن نصبح سبب شبع لكثيرين. وأشبعهم لأنه، في محبته، لا يحتقر الجوع الجسدي، ولكنه لا يكتفي به أيضًا. أراد أن يأخذهم من الأرض إلى السماء، من الرغيف إلى الكلمة، من الشبع العابر إلى الحياة الأبدية.

اليوم، نحن نعيش في عالم فيه الكثير من الخبز، لكن كثيرين لا يزالون جياعًا. الجوع الروحي صار أقسى من جوع الجسد. نأكل، نعمل، نمتلك، ولكن هل نشبع حقًا؟ كم من الناس يشعرون أنهم فارغون، رغم امتلاء موائدهم؟ الجوع الحقيقي لا يُسكت بالمال، ولا يملؤه النجاح، ولا يُشبع بالشهرة. هو المسيح، “خبز الحياة”، القادر أن يَدخل إلى هذا الفراغ ويملأه نورًا وحقًا وسلامًا.

إن حياتنا الروحية لا يمكن أن تحيا بلا طعام. وكما أن الإنسان لا يقدر أن يصوم عن الخبز إلى الأبد دون أن يموت، كذلك لا يمكن لروحه أن تعيش بدون كلمة الله، وبدون الصلاة، وبدون حضور المسيح الحقيقي فيها. الخبز الروحي ليس رفاهية، بل ضرورة. ليس ترفًا إضافيًا، بل هو الحياة بعينها.

حين نشبع بكلامه نقدر أن ننقُلَ إلى العالم طعم الشبع الحقيقي، ونكسر من أرغفة النعمة التي باركها فينا للآخرين.

لقد أشبع المسيح الجياع لأنه لا يقبل أن يبقى الإنسان أسير حاجته، أو عبدًا لجوعه. بل يريد أن يحرّره، أن يرفعه، أن يقدّسه، وأن يشبعه، جسدًا وروحًا.

ختاما، إن معجزة إشباع الآلاف نموذج لحياتنا اليوم. لقد علّمنا أنه لا يكفي أن ننظر إلى جوع الناس أو معاناتهم، بل أن نتحرك، أن نكسر الخبز، أن نقدم القليل الذي بين أيدينا بثقة أنه سيُبارك ويكفي.

من هنا ينبع واجبنا بأنْ نسعى لسَّدِ جوع الإنسان بجناحيه: جوع الجسد وجوع الروح. فالجائع إلى الخبز يحتاج إلى كرامة ولقمة، والجائع إلى المعنى يحتاج إلى كلمة حياة ووجه محبة. لا يمكن أن نكرز عن نعمة الله في قلوب خاوية أو أفواه يابسة. ولا يصح أن نُطعم دون أن نحملَ في طعامنا رسالة رجاء وحق ونور.

فالمحبة الحقيقية لا تتجزأ، بل تطعم وتبارك وتعلّم وتَنهضُ بالإنسان كله، جسدًا وروحًا. ونحن، إن أردنا أن نكون شهودًا للحق الإلهي وللإنجيل المقدّس في هذا العصر الجائع، فعلينا أن نمد أيدينا لا بالخبز وحده، ولا بالكلمة وحدها، بل بهما معًا.

وكما قال المصلح مارتن لوثر: “الخبز وحده لا يكفي؛ فالجسد بحاجة إلى الخبز، ولكن النفس تحتاج إلى كلمة الله.” وكذلك قال: “الله لا يحتاج إلى أعمالك، ولكن قريبك هو من يحتاجها.”