“أنتم ملح الأرض… أنتم نور العالم… هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات” (متى ٥: ١٣-١٦)
في عظته على الجبل، لم يمنح السيد المسيح فقط توجيهات أخلاقية، بل كشف عن هوية وجودية عميقة للكنيسة والمؤمنين، بوصفهم “ملح الأرض” و”نور العالم”.
هذه ليست مجرد استعارات بل دعوة لكي ينعكس سرّ حضور الله في العالم من خلال شهادة الكنيسة. فالكلمات التي قالها يسوع هي كلمات خلاصيّة، تعبّر عن إرساليّة منبثقة من اتحاد المؤمنين بالمسيح، الذي هو نفسه “نور العالم” (يوحنا ٨: ١٢).
الملح، كما هو معروف في الكتاب المقدس، رمز العهد والاستمرارية والنقاوة. ففي سفر اللاويين يُشار إلى “ملح العهد” (لاويين ٢: ١٣)، وفي ذلك ما يذكّر بأن حياة المؤمن المملوءة بالنعمة هي حياة تحفظ الخليقة من الفساد الروحي، وتمنح طعماً للوجود من خلال الشهادة للحق، والتمسّك بقيم الملكوت. وإذا فسد الملح، أي إذا فُقدت هذه الهُوية، فلا يعود لحياة الكنيسة أي تأثير، بل تصبح شكلاً بلا مضمون.
أما النور، فهو تعبير لاهوتي عن الحضور الإلهي. الله هو النور، وفيه لا ظلمة البتة (١ يوحنا ١: ٥)، والمسيح نفسه هو نور أشرق في ظلمة هذا العالم. عندما يقول يسوع “أنتم نور العالم”، فهو يدعو المؤمنين إلى أن يعكسوا هذا النور الإلهي من خلال سلوكهم، أي أن يتحدوا بالمسيح إلى درجة يصبحون فيها حاملي نوره في وسط الظلام. ليست دعوة للتفاخر، بل للمسؤولية. النور لا يُضيء لذاته، بل لغيره، وهكذا الكنيسة لا توجد لتمجيد نفسها، بل لتمجيد الله من خلال “أعمالها الحسنة”.
القديس يوحنا الذهبي الفم قال: “كما أن الشعلة لا يمكن أن تُخفى، هكذا أيضًا لا يمكن أن يُخفى المسيحي الذي يعيش بحسب الروح”.
وهذه ليست مجرد حكمة بل تعبير عن واقع روحي عميق: كل حياة مُتّحدة بالرب لا بد أن تكون نورًا موجهًا، وملحًا محييًا، وعاملًا في سرّ التدبير الإلهي.
في المشرق العربي، حيث تتقاطع الديانات والثقافات، وتشتد الأزمات، تبرز الكنيسة مدعوةً أن تعيشَ هذه الهُوية بشجاعة واتضاع. فالكنيسة ليست كيانًا هامشيًا، بل شهادة حيّة لحضور الله وسط الألم، وعلامة للرجاء في عالم مفكك. دعوتها ليست الحفاظ على وجودها المؤسسي فقط، بل أن تكون خميرة صالحة في عجين هذا العالم. عندما تُبشّر الكنيسة بالرجاء، وتخدم المحتاج، وتدافع عن العدالة، وتواكب الإنسان في صراعاته، فإنها تُضيء نور المسيح، وتُنبت طعماً في حياة من حولها.
كل خدمة رعوية، وكل عمل تربوي أو صحي أو اجتماعي، هو امتداد لهذا الدور اللاهوتي العميق. فالكنيسة ليست فاعلاً اجتماعيًا فقط، بل هي امتداد لسرّ التجسد، إذ تدخل في واقع الإنسان لا لتحكم عليه بل لتحتضنه وتخلصه.
إن دعوة يسوع في إنجيل متى الأصحاح الخامس ليست مجرّد وصيّة، بل إعلان عن هُوية جديدة للمؤمنين: هُوية تحمل الطابع الإلهي وتشهد له. عندما تعيش الكنيسة ملحًا لا يَفسد، ونَورًا لا يَخفُت، فإنها تساهم في تقديس العالم، وتدفع الناس لتمجيد الآب السماوي.
وهكذا، لا تكون الكنيسة في المشرق صوتًا يئنّ في الزوايا، بل جسدًا ينبض بالنعمة، وحضورًا يضيء برجاء الإنجيل، ليبقى المسيح ظاهرًا فيها، ويمتدّ نوره إلى أبعد ما يكون.