يقدّم لنا إنجيل لوقا (١٨: ٩-١٤) مشهداً فريداً يكشف عمق المأساة الروحية حين يتحوّل الإنسان إلى مركز ذاته، فيغترب عن النعمة الإلهية دون أن يدرك. ففي المثل الذي ضربه الرب يسوع، وقف الفريسي متباهياً بأعماله الدينية، معدِّداً أصوامه وعشوره، ومقارنًا نفسه بالآخرين من موقع الاستعلاء، حتى وصل به الأمر أن يحتقر العشّار الواقف بجانبه. وفي المقابل، لم يملك العشّار سوى أن يقرع صدره ويعترف بخطيئته، متوسلاً الرحمة من الله وحده. وهنا يكمن قلب المفارقة: فالذي حسب نفسه باراً خرج مرفوضاً، والذي اعترف بخطيئته نال التبرير.
هذا المثل ليس مجرد قصة عن شخصين تاريخيين، بل هو مرآة لحالة روحية تتكرر في كل زمان. فالبِّر الذاتي هو أخطر أشكال الخطيئة، لأنه يقنع الإنسان بأنه غني وهو في الحقيقة فقير، بأنه صالح وهو في عمق احتياج إلى الغفران. من ينسب التبرير إلى ذاته يسقط من النعمة لأنه يجعل ذاته بديلاً عن رحمة الله. وهنا يكمن جوهر الخطيئة منذ البدء: رغبة الإنسان أن يستقل عن الله، وأن يصنع برّه الخاص، ناسياً أن “الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله” (رو ٣: ٢٣). وكما يقول القديس أغسطينوس: “لقد سقط الإنسان بالغرور، ولا يقوم إلا بالتواضع”.
إن النعمة ليست شيئاً نكسبه بكثرة الأعمال، بل عطية مجانية تُعطى لمن يعترف بعوزه، ومن يطرح نفسه على الله بصدق وانسحاق. العشّار لم يكن يملك أعمالاً ليتباهى بها، لكنه أدرك الحقيقة الجوهرية: أنه لا يملك أمام الله إلا ضعفه، وأن الخلاص لا يقوم على استعراض إنجازات بل على طلب رحمة الله. لذلك خرج مبرَّراً، لأنه وضع رجاءه لا في ذاته، بل في محبة الله الغافرة.
وإذا أسقطنا هذا المثل على واقعنا، نجد أننا كثيراً ما نقف موقف الفريسي دون أن نشعر. حين نقارن أنفسنا بالآخرين ونرى أننا أفضل منهم، حين نحسب صلواتنا وأصوامنا وأعمالنا الخيّرة رصيداً نستعرضه أمام الله، حين نحوّل علاقتنا بالله إلى حساب مصرفي نحاول أن نزيده لننال مقابل ذلك استحقاقاً. وهنا نفقد روح الإنجيل، لأننا نستبدل نعمة الله ببرّنا المزيّف. إن الدين يتحول إلى قناع اجتماعي، والإيمان يصبح أداة للظهور والتفاخر، بينما القلب يظل بعيداً عن الله.
لكن في عمق هذا النص يكمن رجاء عظيم: أن الله لا يُبرر المتكبرين بل المتواضعين، وأنه لا يبحث عن قائمة إنجازاتنا بل عن قلوبنا المنسحقة. فالذي يقرع صدره معترفاً بخطيئته، يفتح المجال أمام الله ليملأه بالنعمة. والذي ينكسر أمام حضرته، يقوم مرفوعاً. وهكذا يصير التواضع ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل شرطاً لاهوتياً للحياة في النعمة، لأن النعمة لا تسكن إلا في قلب يدرك حاجته إليها.
إن البِّر الذاتي هو أخطر ما يهدد إيماننا، لأنه يجعل الخلاص ممكناً بقدرة الإنسان، بينما الحقيقة أن خلاصنا يتاتي من الله وحده بما صنعه لاجلنا بالمسيح يسوع . وهذه هي المفارقة الإنجيلية التي تتكرر على الدوام: “كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع”.
في نهاية المطاف، ليس أمامنا إلا أن نتخلى عن وهم استحقاقنا، وأن نطرح كل برّ ذاتي أرضاً، ونعود إلى حضرة الله كما نحن: خطاة محتاجين إلى رحمته. وحينها فقط ندرك أن النعمة ليست فكرة نظرية، بل هي حياة تُعاش، وولادة جديدة تقيمنا من موت الكبرياء إلى فرح التبرير.