قصدنا الأردن في رحلة حج روحية وسياحية، فعُدنا بانطباع لا يُمحى. بلدٌ جميل، وشعبٌ طيّب، وتاريخ عريق يمتد في الزمان والمكان. منذ لحظة وصولنا، أحسسنا وكأننا في ربوع وطننا الثاني؛ فكلّ ما في الأردن يرحّب بلبنان وشعبه، بمحبة واحترام وتقدير يبعثون في النفس طمأنينةً واعتزازًا.
لا شك أن السفر نافذة على الحضارات، وفرصة لاكتشاف الآخر، والاستراحة من رتابة الحياة اليومية. لكنه أيضًا، كما تبيّن لنا، بابٌ إلى تأملٍ أعمق ومعايشةٍ أكثر صدقًا لمعاني الإنسانية والانتماء. وهذا بالضبط ما وجدناه في الأردن.
بدأت رحلتنا من مطار بيروت، حيث لاح في الأفق تفاؤل جديد رغم بعض الملاحظات الضرورية. فعلى الرغم من أن حركة المطار لم تكن في ذروتها، إلا أننا انتظرنا أكثر من ساعتين لإنهاء الإجراءات والدخول إلى السوق الحرة. وهنا نرفع رجاءً صادقًا إلى الجهات المعنية للنظر في تحسين تجربة المسافرين في هذا المرفق الحيوي، وعدم الاكتفاء بالوعود.
وصلنا إلى مطار الملكة علياء، فكان الاستقبال أكثر من مميز. ترحيبٌ حار واحترامٌ بالغ، وكان لافتًا تحية أحد الموظفين للعلم اللبناني الذي ارتفع عاليًا في يد منظم الرحلة، في لحظة رمزية مؤثرة.
رافقتنا فيروز في أسواق وأحياء الأردن، كما رافقتنا مشاعر الود التي غمرت مجموعتنا، أينما حللنا. زرنا مأدبة ثم المغطس، حيث نال السيد المسيح المعمودية على يد يوحنا المعمدان، وشهدنا كيف تتجاور الكنائس من مختلف المذاهب المسيحية في تناغم فريد، كثير منها شُيّد في عهد المغفور له الملك الحسين بن طلال، واستمر الاهتمام بها في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني.
تابعنا الشرح المفصل للمرشدة السياحية الراقية، شعرنا وكأننا نقرأ الكتاب المقدس بعينيْن جديدتين. كل مكان وطأته أقدامنا كان يحكي قصة نبي أو قديس، أو ينضح ببركة مرت من هنا. نعم، هنا المسيحيون يعيشون في أمن وسلام، يمارسون شعائرهم بحرية، وكنائسهم تعانق أرض الأردن بفضل رعاية ملكية حكيمة.
من عمّان إلى العقبة، مرورًا بجرش، عجلون، غور الأردن، جبل نيبو، وادي رم، والبترا… كنا نعيش التاريخ لا نقرأه فقط، ونلمس الجغرافيا بكل تفاصيلها. مشاهد تأسر العقل وتُدهش الروح، تنطق بجمال الخالق، وتحكي عن عراقة الشعوب.
كان للشعب الأردني محبة خاصة في قلوبنا: شعبٌ متواضع، ودود، يعتذر برقي، ويُقرّ بالتقصير إن حصل، بكل تهذيب ولباقة. وأكثر ما لفتنا هو وفاؤه لوطنه وقيادته؛ وهذه وحدها من أبرز ركائز الاستقرار.
في نهاية الرحلة، وقبيل مغادرتنا من مطار الملكة علياء، استقبلنا الموظفون بالترحيب ذاته، وسألونا عن الإقامة وسعادتهم تعلو ملامحهم عند سماعهم كلمات الشكر. اهتمام صادق وتقدير لا يُنسى.
شكرًا للأردن، هذا الوطن الذي جمع بين عبق الماضي وازدهار الحاضر، فغدا مقصدًا لكل من أراد أن يعيش التاريخ لا أن يدرسه فقط، وأن يرى في الجغرافيا معاني تتجاوز التضاريس.
أربعة أيام فقط كانت كفيلة بأن تترك في القلب أثرًا عميقًا، وفي الذاكرة مشاهد لا تُنسى.