العظيمة في الشهيدات بربارة بقلم الأب نداء إبراهيم المخلصي

روايات عديدة تناولت سيرة حياة القديسة بربارة، وهي من الشهيدات الكثيرات الشعبيّة في الكنيستين الشرقيّة والغربيّة والتي نحتفل بعيدها في اليوم الرابع من شهر كانون الأول.
وُلدت بربارة في أوائل القرن الثالث للميلاد في مدينة نيقوميذيا، كان والدها ديسقورس من الأشراف، غنيًا، معروفًا بين الأُسر الكبيرة، لكنّه كان مُتحمّساً للوثنيّة، شديد التمسّك بأصنامه ويكره المسيحيين. إمتازت بربارة بجمال قدّها وبهاء طلعتها وعذب كلامها وحدّة ذكائها. فخاف عليها والدها من مفاسد ذلك العصر، فعزم على إحتجازها في قصرٍ منيف عالي الأسوار وخصّصَ لها غُرفة رحبة ذات نافذتين حتى تستطيع مشاهدة المدينة ولا يتسنى لأحد أن ينظر إليها.
تعرّفت بربارة على المسيح من خلال مسيرة تأمليّة في أسرار الكائنات، والبحث عن الإله الحقيقي الذي نثَرَ النجوم في السماء وأنبت أزهار الحقل، فراح قلبها يزهد في الدنيا ومباهجها، وبدأت ترى في أصنام والدها حجارة صمّاء لا حياة لها ولا جمال. ثمّ من خلال خُدّامها المسيحييّن تعرّفت على اوريجانس استاذ في معهد الإسكندرية الذي أرسل لها تلميذه فالنتنيانوس ومنه وقفت على أسرار الحياة الإلهيّة والتعليم المسيحيّ، ليمنحها فيما بعد سرّ العِماد والقربان المقدّس، ومن ذلك الوقت خصصّت بتوليتها للرب على مثال العذراء الطاهرة.
عندما عَلِم والدها بأنها أصبحت مسيحيّة، ثار ثائره وجعل يضربها ضربًا عنيفًا ويلكمها بيديه ويدوسها برجليه، ثمّ كبَّلها وطرحها في قبوٍ مظلم. أمّا بربارة فقد فرحت فرحًا يفوق الوصف، إذ وجدت نفسها تحتمل الضرب والإهانة والسجن وتعاني أشدّ الإضطهاد على غرار الرسل والقديسين. ثمّ ظهر لها ملاك يشجعها ويقويها، ويقول لها: “لا تخافي ايتها البتول المسيحيّة، فإنّ الله سيكون دائمًا نصيرك”.
وبعد إضطهادات كبيرة وشتى أنواع التعذيب، لم تفلح كل وسائل الترغيب والتهديد بثني بربارة عن موقفها، فأمر الحاكم بقطع رأسها، فطلب والدها أن يسمح له بقطع رأسها بيده، وإذ رأت القديسة أن ساعتها قد دنت، ولم تستطع أن تتناول جسد الرب زادًا أخيرًا لنفسها، صلّت وطلبت من يسوع ألاّ يحرم هذا الزاد الإلهي الأخير كل من يطلب هذه النعمة بشفاعتها. ثمّ جثت وضمّت يديها الى صدرها وحنت رأسها أمام والدها الذي إستلّ الفأس وضربها ضربة واحدة قطع بها رأسها، فطارت نفسها الى خذر عروسها لتنعم معه بالأفراح السماوية.
بربارة قديسة حيّة في حياة المسيحيّين
إنّ ثراء الأساطير المحيطة بإستشهاد القديسة بربارة، أدىّ الى ظهور ممارسات مختلفة تستحضِر حضورها بين المؤمنين، مثل تناول القمح المسلوق، او إرتداء الملابس التنكّرية عشية عيدها والتجول بين المنازل على وقع اغاني شعبيّة تروي محطات من حياة قديستنا. فعلى سبيل المثال تناول القمح المسلوق حيث تُعَدّ صينية القمح المسلوق المسمّاة باليونانية κόλλυβα (كوليفا) وتُزيّن بالسُكّر المطحون والزبيب والرُمّان والجوز وبعض أنواع المطيّبات والمكسّرات الأخرى. كما أنّ رواية أُخرى تُشير الى أنّ القديسة بربارة إختبأت في حقل قمحٍ من السنابل التي غطّتها وأخفتها عن عيون والدها الذي كان يُطاردها ليقتُلهابعد علمِه بإعتناقها المسيحيّة. لكنّ الثابت عندنا في رمزية القمح، هو ما ذكره المسيح: “الحقّ الحقّ أقولُ لكم: إنّ حبّة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير” (يو 12: 24). فالقدّيسون الذين إختبروا حُبّ المسيح وموته الفدائيّ على الصليب وفرح قيامته، بموتهم عن ذواتهم وعن أباطيل العالم، كما قبولهم العذابات وإستشهادهم، إنما أعطوا بموتهم نموًا أكثر وفرة للإيمان المسيحيّ وأثمرت شهادتهم مئة ضعف.
أمّا عادة إرتداء الملابس التنكُّريّة فيرمز الى تنكّر القديسة بربارة بثياب الفلاحين هربًا عن عيون والدها والجواسيس الذين كانوا يبحثون عنها. كما يرمز التنكّر الى إخفاء كل ما هو حقيقي إشارةً الى سعي والدها مع الحاكم الوثني الى الضغط على بربارة لتغيير دينها ومحيّ كل حقيقةٍ في داخلها.
شرح إيقونة القديسة بربارة
نشاهد في الإيقونة القديسة بربارة بوجهها الوضّاء وجمال طلعتها البهيّة وقد فاض من وجهها نورٌ سماوي يعكسُ ما في داخلها من هدوءٍ وسلام. نظراتها تغوص الى البعيد الى عالم الله، لقد أدركت أن غناها الحقيقي هو في الرب يسوع المسيح الذي قدّمت نفسها له. على رأسها تاجٌ مُذهّب ومُرصّعٌ باللالئ لكونها ملكة لإيمانها بالربّ يسوع.
ترتدي القديسة بربارة ملابس فاخرة على غرار ملابس الأغنياء والملوك لكونها إبنة رجلٍ غنيّ ولكن للأسف وثنيّ العبادة، أمّا لون ثوبها الأرجوانيّ يرمُز الى الشهادة والدماء التي سفكتها من أجل إيمانها المسيحيّ.
تحمل القديسة في يدها رقٌ مكتوبٌ عليه عبارة: “أُكَرّمُ الثالوث القدّوس”، والسبب يعود لكونها كانت تعيش في غرفة لها نافذتين فقط فأمرت بفتح نافذة ثالثة، وعندما سألها والدها عن سبب التغييّر قالت له: “أما تعلم يا أبي أنّ كل شيء يَكملُ بالثالوث؟ فهذه النوافذ الثلاث على إسم الثالوث القدّوس، فأرجوك يا أبي أن ترجع عما أنت فيه، وتعبد الله الحقيقيّ خالقنا وفادينا”.
في يدها اليمنى تحمل كأسًا رمزًا للمناولة الإلهيّة، هي التي صلّت وطلبت من الرب ألاّ يحرم أحدًا من تناول الزاد الأخير قبل رحيله عن هذه الفانية. فكّلُ من يُصلّي للقديسة بربارة ويذكرها دائمًا، لا يطالهُ الموت الفجائي، بل يَنعم بقبول أسرار المسيح والمناولة المقدّسة قبل الرحيل عن هذه الحياة. في الختام نضرع الى الرب يسوع أن يمنحنا على مثال القديسة بربارة أن نثبت في الإيمان ونجاهر به فنخلع عنّا قناع الخوف والخضوع الذي لا يليق بمحبّته، آمين.

Comments are closed.