الأحد الخامس والعشرين للزمن العادي، السنة ب(مرقس ٩: ٢٩–٣٦)
نورسات الاردن
أصبح صعود يسوع نحو أورشليم مناسبة ليفسر لتلاميذه معنى هذه الرحلة، والمصير الذي ينتظره هناك.
لذلك حدّث يسوع تلاميذه ثلاث مرّات عن الألم الذي سيعانيه في المدينة المقدسة، وفي كلّ مرّة يُظهر ردّ فعل التلاميذ بُعدَهم عن الدخول في منظور معلّمهم.
فإن كان بطرس، في المرّة الأولى، هو الذي يعرِض نفسه لمحاولة “إنقاذ” يسوع من مصيره (مرقس ٨: ٣٢)، كما رأينا يوم الأحد الماضي، فإنّ المجموعة بأكملها تكشف هنا، ليس فقط صعوبة فهمهم لكلماته، بل ما يختلج في قلوبهم، المتطلّعة إلى – والطامعة في – مناصب السلطة.
تدور الرواية في جزئين.
يتمّ الجزء الأوّل على امتداد الطريق: يخلق يسوع الظروف المؤاتية للتحدّث مع تلاميذه، مُتجنّبًا أيّ حضور آخر أو تدخّل غريب.
غير أنّ هذا غير كاف لنجاح التواصل معهم: لا تجد كلمات يسوع موضعًا في قلوبهم، التي تفشل في فهم معنى كلماته.
يقول مرقس أنّ التلاميذ لا يفهمون، ولكن ليست هذه المشكلة الوحيدة. تكمن المشكلة في أنّهم يخافون من الاستيضاح (مرقس ٩: ٣٢)، فيبقون عاجزين عن الكلام.
يتكرّر مصطلح “خوف” مرارًا في بشارة مرقس، وغالبًا ما يتبعه موقف انغلاق وانطواء على الذات.
نجد مثالًا على ذلك في الفصل ١١: ٢٨ عندما يسأل قادة الشعب يسوع عن السلطان الذي يقوم به بأعماله. وأمام ردّ فعل يسوع، الذي يسألهم بدوره عن معموديّة يوحنّا، يقول البشير مرقس أنّهم كانوا خائفين من قول الحقيقة (آية ٣٢)، وظلّوا متقوقعين في مخاوفهم. وبدلًا من الانفتاح على الحوار، ينغلقون، مثل التلاميذ، في مواقف دفاعيّة.
سنجد هذا الخوف في ختام بشارة مرقس أيضاً (مرقس ١٦: ٨)، وهو خوف النساء أمام إعلان قيامة الربّ – وفي هذه المرّة أيضًا ينغلق القلب وينعقد اللسان ويعجز عن الكلام من شدة الخوف (“فخرجن من القبر وهربن، لِما أخذن من الرعدة والدهش، ولم يقلن لأحد شيئاً لأنّهن كنّ خائفات“).
لذلك، يظهر الخوف في الإنجيل كلّ مرّة يكون هناك شيء جديد ينبغي الانفتاح عليه، وبه يتمّ تحويل القلب وتوسيعه.
بالنسبة إلى المقطع الإنجيلي لهذا الأحد، يُدعى التلاميذ إلى الانفتاح على آلام يسوع، الذي يحمل في جسده سرّ عذاب كلّ إنسان. ولذلك لا يُدهشنا خوفُهم الكبير أمام احتمال مشاركتهم في عذاب الربّ.
ومع ذلك، هذا هو، ولا شيء آخر، ما يصنع المسيحي وما يوسّع مساحة قلبه وانفتاحه على اللامتناهي.
إنّ البديل شيء مُحزن للغاية، ونجده موضَّحًا في الجزء الثاني من المقطع الإنجيلي: البديل، في الواقع هو عبثيّة الركض وراء هوس العظمة والقوّة، وهو شيء لا يتماشى أبدًا مع عمق الهبة الّتي تُعرض عليهم.
يمكن القول بأنّه في غياب أيّ انجذاب حقيقيّ نحو ما يجعل الحياة حقيقيّة وأصيلة، لا يستطيع المرء سوى أن يفقد نفسه داخل بحثه الشخصي عن المظاهر: وهذه هي خطيئة كلّ مكان وزمان.
وهكذا من المحزن أن يظهر صغرُ قلب الشخص كلما طمع في أن يكون عظيمًا.
ولكن العظيم حقًّا، يصفه يسوع ذاته في بادرة ذات مغزى: إنّ العظيم هو ذلك الشخص القادر على تقبّل الصغير، وفقًا للمنطق الإنجيلي للمجانيّة.
في الواقع، نحن جميعًا قادرون على تقبّل الكبار، لأنّ هذا يحمل معه بعض المجد البشري الذي نعلّق عليه آمالنا.
أمّا تقبّل الصغار فهو لفتة خفيّة من قِبَل الشخص الذي لا يبحث عن نفسه، بل عن خير الآخر، ويُحبّ دون انتظار أيّ شيء بالمقابل. إنّه منطق الشخص الذي يدعو إلى الطعام لا الجيران والأقارب، بل الفقراء والمقعدين (لوقا ١٤: ١٢–١٤)، ذاك الذي يتصدّق دون أن ينفخ في البوق أمامه (متّى ٦: ٢)، ذاك الذي يُصلّي من أجل أعدائه (متّى ٥: ٤٤)، ذاك الذي يُغلق الباب ويُصلّي في الخفاء (متّى ٦: ٦).
لذلك، إنّ المدعوّين إلى قيادة الجماعة المسيحيّة ليسوا هم الأفضل والأكثر ذكاءً أو الأقوى. إنّ المدعوّين هم أولئك الذين جعلوا منطق التقبّل المجاني خاصًا بهم، ويعرفون كيفيّة تحمّل الثمن الذي هو الصليب.
بهذه الطريقة فقط تصبح حياتهم خدمة للإخوة، لا بحثًا عن أنفسهم؛ كالراعي الصالح الذي يبذل حياته لأجل خرافه (يوحنّا ١٠: ١١).
سيتوجّب علينا دائمًا أن نبدأ من جديد انطلاقًا من هنا لتحقيق كلّ تجديد حقيقيّ وأصيل.
ليس من قبيل المصادفة أن يحدّد مرقس أن تعليم يسوع هذا يحدث في كفرناحوم: في الواقع، تبدأ مسيرة التلاميذ مرّة أخرى في الجليل (مرقس ١٦: ٧)، بعد الخوف الكبير من الصليب، الذي شتّتهم بعيداً عن الربّ، وجعلهم غير قادرين حتّى على تقبّل إعلان القيامة: “اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: هناك ترونه كما قال لكم“.
عندما يتحطّم كلّ طموح، يعود الانسان إلى اتّباع الربّ مرّة أخرى، ويبدأ بوضع مجده الشخصي في المسيح المصلوب والقائم.
- بييرباتيستا
Comments are closed.