البابا: أتى يسوع لكي يلمس قلوبنا ويقول لنا إن القوة الوحيدة التي تغير مجرى التاريخ هي الحب

“إنَّ يسوع الذي تجرّد من كلِّ شيء في المذود وسيتعرّى على الصليب، يطلب منا الحق، وأن نذهب إلى واقع الأشياء المجردة، ونضع عند أقدام المذود الأعذار والمبررات والنفاق. هو، الذي قمَّطته مريم بحنان، يريدنا أن نُلبس أنفسنا بالحب” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا قداس ليلة عيد الميلاد

ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة السابعة والنصف من مساء الجمعة قداس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القديس بطرس، وألقى عظة استهلها بالقول ما الذي لا تزال تقوله هذه الليلة لحياتنا؟ بعد ألفي عام من ولادة يسوع، بعد العديد من أعياد الميلاد التي احتفلنا بها بالزينة والهدايا، وبعد الأشكال العديدة للنزعة الاستهلاكية التي غطّت السِّرَّ الذي نحتفل به، هناك خطر: نحن نعرف الكثير عن عيد الميلاد، لكننا ننسى معناه. إذن، كيف يمكننا أن نجد مجدّدًا معنى عيد الميلاد؟ ولاسيما، أين علينا أن نذهب لكي نبحث عنه؟ يبدو أن إنجيل ولادة يسوع قد كُتب لهذا السبب بالذات: لكي يمسكنا بيدنا ويُعيدنا إلى حيث يريد الله.

تابع البابا فرنسيس يقول هو يبدأ في الواقع، بوضع مشابه لحالتنا: الجميع مأخوذ ومشغول بحدث مهم يجب الاحتفال به، الإحصاء السكاني الكبير، الذي كان يتطلب الكثير من الاستعدادات. بهذا المعنى، كان الجو في ذلك الوقت مشابهًا للجو الذي يغمرنا اليوم في عيد الميلاد. لكنّ رواية الإنجيل تبتعد عن هذا المشهد الدنيوي: سرعان ما “تفصل” الصورة لتذهب وتسلّط الضوء على واقع آخر، وتصرُّ عليه. فتتوقّف عند شيء صغير، يبدو أنه غير مهمٍّ في الظاهر، تذكره ثلاث مرات، ويلتقي حوله رواد القصة: أولاً مريم، التي تضع يسوع “في مذود”؛ ثم الملائكة، الذين يعلنون للرعاة “طفلاً مُقمَّطًا مُضجعًا في مذود”؛ ثم الرعاة الذين وجدوا “الطفل مُضجعًا في الـمذود”. المذود: لكي نجد مجدّدًا معنى عيد الميلاد علينا أن ننظر هناك. لكن ما سبب أهمية المذود؟ لأنه العلامة غير العشوائية التي يدخل بها المسيح إلى العالم. إنه الإعلان الذي يقدم به نفسه، الطريقة التي يولد بها الله في التاريخ لكي يجعل التاريخ يولد من جديد. ماذا يريد أن يقول لنا إذن من خلال المذود؟ ثلاثة أشياء على الأقل: القرب والفقر والواقعيّة.

أضاف الأب الأقدس يقول أولاً القرب. يُستخدم المذود لتقريب الطعام من الفم واستهلاكه بشكل أسرع. وبالتالي يمكنه أن يرمز إلى جانب من جوانب الإنسانية: الشراهة في الاستهلاك. لأنه بينما تستهلك الحيوانات الطعام في الإسطبل، يستهلك البشر في العالم، الجائعين للسلطة والمال، أقرباءهم وإخوتهم. كم من الحروب! وكم من الأماكن لا تزال اليوم أيضًا تُداس فيها الكرامة والحرية! ودائمًا ما يكون الضعفاء الضحايا الرئيسيين للشراهة البشريّة. حتى في عيد الميلاد هذا، لا تُفسح البشرية، التي لا تشبع من المال والسلطة والمتعة مجالًا، كما كان الحال بالنسبة ليسوع، للصغار وللعديد من الأطفال الذين لم يولدوا بعد، والفقراء، والمنسيين. أفكر في شكل خاص في الأطفال الذين التهمتهم الحروب والفقر والظلم. لكن يسوع يأتي هناك بالتحديد، طفل في مذود التهميش والرفض. وفيه، هو طفل بيت لحم، نجد كل طفلٍ؛ ونجد الدعوة لكي ننظر إلى الحياة والسياسة والتاريخ من خلال عيون الأطفال.

تابع الحبر الأعظم يقول في مذود الرفض وعدم الارتياح، حلَّ الله: أتى إلى هناك، لأن هناك نجد مشكلة البشريّة، اللامبالاة التي تولدها العَجَلة الشَّرسة للامتلاك والاستهلاك. وُلِد المسيح هناك وفي ذلك المذود نحن نكتشفه قريبًا منا. يأتي إلى حيث يتم التهام الطعام ليجعل من نفسه طعامًا لنا. الله ليس أبًا يلتهمُ أبناءه، بل هو الآب الذي في يسوع يجعلنا أبناءه ويغذينا بحنان. يأتي لكي يلمس قلوبنا ويقول لنا إن القوة الوحيدة التي تغير مجرى التاريخ هي الحب. لا يبقى بعيدًا ومتسلِّطًا، بل يصبح قريبًا ومتواضعًا؛ وهو الذي كان يجلس في السماء، سمح بأن يُوضَعَ في مذود.

أضاف البابا فرنسيس يقول أيها الأخ أيتها الأخت إنَّ الله يقترب منك هذه الليلة لأنه يهتمُّ بك. ومن المذود، كغذاء لحياتكَ، يقول لك: “إذا شعرت أن الأحداث تُرهِقُكَ، وإذا كان شعورك بالذنب وبالعجز يلتهمك، إذا كنت جائعًا للعدالة، أنا الله معك. أنا أعرف ما تعيشُه، لقد اختبرتُه في ذلك المذود. أنا أعرف مآسيكَ وتاريخَكَ. لقد ولدت لكي أقول لك إنني قريب منك وسأبقى كذلك على الدوام”. يقول لنا مذود عيد الميلاد، أول رسالة لإله رضيع، إن الله معنا، ويحبنا، ويبحث عنا. فتشجّع، لا تسمح بأن يغلِبك الخوف، والاستسلام، والإحباط. لقد ولد الله في مذودٍ لكي يجعلك تولد من جديد هناك، من حيث كُنتَ تعتقد أنك قد وصلتَ إلى الحضيض. لا يوجد شر، ولا توجد خطيئة لا يريد يسوع ولا يقدر أن يخلصك منه. إنَّ عيد الميلاد يعني أن الله قريب: لتولد الثقة من جديد!

تابع الأب الأقدس يقول بالإضافة إلى القرب، يحدّثنا مذود بيت لحم عن الفقر. في الواقع، ليس هناك الكثير حول المذود: عيدانٌ، وبعض الحيوانات وبعض الأشياء الأخرى. كان الناس في دفء الفنادق، وليس في حظيرة المضافة الباردة. لكن يسوع وُلِد هناك ويذكرنا المذود أنه لم يكن حوله إلا الأشخاص الذين أحبوه: مريم ويوسف وبعض الرعاة؛ جميعهم فقراء تجمعهم المودة والدهشة، لا الغنى والإمكانيات الكبيرة. لذلك يُظهر المذود الفقير غنى الحياة الحقيقي: لا المال والسلطة، وإنما العلاقات والأشخاص.

أضاف الحبر الأعظم يقول والشخص الأول، والغنى الأوّل، هو يسوع. ولكن هل نريد أن نكون إلى جانبه؟ هل نقترب منه ونحب فقره؟ أم نفضل أن نبقى مرتاحين في مصالحنا؟ ولكن وبشكل خاص، هل نزوره حيث هو، أي في المذاود الفقيرة في عالمنا؟ إنه حاضر هناك. ونحن مدعوون لنكون كنيسة تعبد يسوع الفقير وتخدم يسوع في الفقراء. وكما قال أسقف قديس: “إنَّ الكنيسة تدعم وتبارك الجهود المبذولة لتحويل هيكليات الظلم وتضع شرطًا واحدًا فقط: أن تعود التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالنفع الحقيقي على الفقراء”. بالطبع، ليس من السهل أن نترك دفء الحياة الدنيوية لكي نعانق جمال مغارة بيت لحم الأجرد، لكن لنتذكر أنه لا يكون هناك عيد الميلاد حقًا بدون الفقراء. بدونهم نحتفل بعيد الميلاد، لكن ليس بعيد ميلاد يسوع. أيها الإخوة والأخوات، في عيد الميلاد، يكون الله فقيرًا: لتولد المحبة من جديد!

تابع الأب الأقدس يقول نصل هكذا إلى النقطة الأخيرة: يحدّثنا المذود عن الواقعية. في الواقع، يمثل الطفل في المذود مشهدًا مؤثِّرًا، لا بل قاسيًا. يذكرنا أن الله صار جسدًا حقًا. وبالتالي فإنَّ النظريات والأفكار الجميلة والمشاعر الورعة حوله لم تعد كافية عنه. إنَّ يسوع، الذي ولد فقيراً، سيعيش فقيرًا ويموت فقيرًا، هو لم يلقِ خطابات كثيرة عن الفقر، ولكنه عاشه حتى النهاية من أجلنا. من المذود إلى الصليب، كان حبه لنا ملموسًا وواقعيًّا: منذ الولادة حتى الموت، عانق ابن النجار خشونة الخشب، وفظاظة حياتنا. فهو لم يحبنا بالكلمات، ومحبّته لنا ليست أبدًا مزحة! وبالتالي، فهو لا يرضى بالمظاهر. هو الذي صار جسدًا لا يريد فقط المقاصد الصالحة. هو الذي وُلِد في المذود يبحث عن إيمان ملموس، قوامه العبادة والمحبة، لا النميمة والمظاهر الخارجية. هو الذي تجرّد من كلِّ شيء في المذود وسيتعرّى على الصليب، يطلب منا الحق، وأن نذهب إلى واقع الأشياء المجردة، ونضع عند أقدام المذود الأعذار والمبررات والنفاق. هو، الذي قمَّطته مريم بحنان، يريدنا أن نُلبس أنفسنا بالحب. إن الله لا يريد المظاهر الخارجية وإنما الواقعيّة. لا نسمحنَّ إذن بأن يمرَّ هذا الميلاد دون أن نفعل شيئًا صالحًا. بما أنه عيده وعيد ميلاده لنقدم له هدايا مقبولةً لديه! في عيد الميلاد، يكون الله ملموسًا: لنحيي مجددًا باسمه القليل من الرجاء في الذين قد فقدوه!

وختم البابا فرنسيس عظته بالقول يا يسوع، نحن ننظر إليكَ، مُضجعًا في المذود. نراك قريبًا جدًا، قريبًا منا إلى الأبد: شكرًا لك يا رب. نراك فقيرًا، تُعلمنا أن الغنى الحقيقي ليس في الأشياء، بل في الأشخاص، ولاسيما في الفقراء: سامحنا إذا لم نتعرف عليك ونخدمك فيهم. نراك واقعيًّا، لأن محبتك لنا ملموسة: ساعدنا لكي نجسد إيماننا ونجعله حيًّا. آمين.

Comments are closed.