القيامة تتغلب على الشك بقلم سيادة المطران الدكتور منيب يونان
“ربي وإلهي”
(إنجيل يوحنا 20 : 28 )
واحدة من حوادث القيامة الأولى الهامة، هي أن التلميذ توما وقع في حبال الشك بقيامة المسيح من بين الأموات، ومع أنَّ مريم المجدلية أكدت للتّلاميذ برؤية المسيح القائم من بين الأموات (إنجيل يوحنا 20: 8 ). غير أن بعض الرسل لم يقتنع بهذه الحقيقة. ومع أن بطرس الرسول ويوحنا الرسول عاينا القبر الفارغ (إنجيل يوحنا 20: 6 – 8 ) إلّا أنّهما يعيشان في صدمة. وقد يكون أن القبر الفارغ بالنسبة لهما هو ليس علامة دامغة على القيامة، إنما دافع للخوف وخيبة الأمل، فكان بعضهم يتساءلون: “فهل سرق جسد سيدنا المسيح ومعلمنا ؟ وهل ثمة أيّة دوافع سياسية أو دينية لا نعلمها؟
ولكن الحقيقة الدامغة هي أن الرجل الذي رآه يصلب على خشبة الصليب على تلة الجلجثة قد قام، وأن جسد الميت الذي دفناه يوسف الرامي ونيقوديموس قد قام، وتكلم القائم من بين الأموات مع مريم المجدلية أول شاهده للقيامة، وأرسلها ومعها رسالة لتلميذه بأنه قد قام، فكيف تفسر كل هذه الأحداث الحقيقية التي جرت بسرعة البرق؟ ولذلك اضطر التلاميذ أن يجتمعوا معًا والأبواب مغلّقة ومحكمة خوفًا من أن يكون مصيرهم مصير معلمهم؛ ولذا فالخوف يشلُّ الفكر ويضيّع الرؤية.
وفي وسط خوفهم وارتباكهم يظهر يسوع في وسطهم عشية أول يوم من القيامة الأولى، ويقف في وسط التلاميذ حتى ولو كانت الأبواب مغلّقة، ويحييهم بتحيّة السَّلام المشهورة:
“سلام لكم ” (إنجيل يوحنا 20: 29 ) .
ثم أراهم يديه وجنبه حتى لا يفتكر أنه خيال أو شبح أو جن؛ إنما قيامته في اليوم الثالث من الصلب هي حقيقة دامغة؛ ولذا فرح التلاميذ وتبدد خوفهم إذ رأوا الرب. (إنجيل يوحنا 20: 20) .
ولكن ألم يعلمهم يسوع في حياته الأرضية أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ ولماذا شكّوا في قيامته؟! ألم يعدهم المسيح بأنه سيأتي بالفرح والتعزية؟ (إنجيل يوحنا 17: 12 13)؛ فلماذا شكّوا في ذلك ألم يعدهم المسيح بأنه سيرسل المعزي الذي هو روح الحق الذي من عند الأب ينبثق! ( إنجيل يوحنا 15: 26 ) .
وهذا الرّوح القدس سيقودهم في العالم ليشهدوا بالخلاص للبشرية جمعاء ويمدوا ملكوت الله على هذه الأرض “حتى يؤمن العالم إنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني “. (إنجيل يوحنا 17: 23 ). فجميع هذه الحقائق تتحقق في قيامته؛ ولذا يقف المصلوب القائم من بين الأموات في وسطهم ويقويهم بكلماته المعزية
” سلام لكم ”.
إن للسّلام الذي أتى به المسيح معنيين:
أولهما: أن سلام المسيح هو سلام القلب، فعندما يدخل المسيح إلى أعماق قلوبنا، ويؤثر في حياتنا تأثيرا إيجابيا، عندها ينتزع منها كل خوف أو حزن أو خطيه، ويمنح مغفرة حقيقية للخطية، فكما حمل المسيح على صليبه خطايا العالم، ودفع بدمه الثمين خلاصنا، فهو يستمر في مغفرة كل إنسان إذا قبله مخلصا شخصيا وسيدا لحياته. فهذا هو السلام الحقيقي الذي جاء به المسيح على صليبه وفي قيامته.
وثانيهما: إن السلام هو دائما مرتبط ارتباطا وثيقا بالعدالة. كما يرنم المرنم : “البر (العدل) والسلام تلاثم”(مزمور١٠:٨٥) . فعندما تتحقق العدالة، عندها يغدو السلام هبة من الله . وعلى الصليب قد تحققت هذه العدالة الإلهية؛ لذلك قال لنا المسيح: “سلاما اترك لكم. سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب” (انجيل يوحنا ٢٧:١٤). وكما فسرها أحد اللاهوتيين: أن سلام القيامة هو سلام حقيقي على الرغم من الألم والعذاب والأذى التي نتحملها على هذه الأرض، فعطف الله لنا في يسوع المسيح القائم من بين الأموات هو يحقق السلام الحقيقي، وهو أقوى من أي قوة بشرية.
لا نزال نعيش حيثيات الحرب، إما في غزة أو في الضفة الغربية، ونعيش اليوم حالة من الارتباك والخوف والحزن والغضب على كل ما تشاهده أعيننا على شاشات التلفاز أو التواصل الاجتماعي، ولكننا لسنا كالتلاميذ في غرفة أبوابها مغلقة، إنما نعيش في بلد مغلق بسبب الخوف والارتباك، ولا نعرف ما يخبئه لنا الدهر.
ومما يحزننا أن أجيالنا الصاعدة المتعاقبة لم تختبر حتى هذا اليوم لا معنى السلام ولا معنى العدالة؛ إنما يعيشون تحت ظل الاحتلال، ويبدو أن أصحاب القوة والنفوذ في هذا العالم قد فقدوا بوصلة العدالة؛ لأنهم يهتمون بمصالحهم السياسية والاقتصادية والانتخابات ليس إلا. هذا وقد فقد أصحاب النفوذ والقرار فهم إرادة الله لهذه البلاد المقدسة؛ فإن إرادة الله هي سلام مبني على العدالة، ليس فقط للشعوب القوية؛ إنما لكل شعب مقهور. وعلى الرغم من خوفنا وارتباكنا فنحن لا نثق إلّا بقوة رب القيامة الذي غلب الموت بالموت، وقهر الخطية والقمع والعنف والذل والعنصرية والحقد على صليبه وبقيامته ومنح الحياة وحياة كريمة للجميع سواسيه؛ ولذلك نرفع اليوم أدعيتنا من بلد مغّلق ومرتبك ونصلي:
أنت يا رب القيامة هو ملجأنا الوحيد. امنح بلاد القيامة عين السلام الحقيقي الذي منحته لتلاميذك في غرفتهم المغلّقة؛ لأننا نعلم كل العلم أن السلام الحقيقي التي تريده يا الله هو سلام مبني على العدالة؛ ولذلك نعزي أنفسنا عندما تقول لنا كما قلت لتلاميذك الأوائل : “سلام لكم”.
لم يكن التلميذ توما مع التلاميذ عندما ظهر يسوع القائم من بين الأموات، فلم يصدق ما اختبره التلاميذ في غرفتهم المغلقة مع رب القيامة. فقال توما: ” إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أؤمن”. ( يوحنا 20: 25 ) . فطلب هذا التلميذ برهانا ملموسا ليصدق حقيقة القيامة، وليس هذا فحسب فيبدو أن توما لم يعرف شيئا آخر سوى يسوع الميت والذي لا يزال ميتا.
وبعد ستة أشهر من الحرب على غزة يبدو أننا صرنا مثل التلميذ توما نشك في كل ما يحدث من حولنا، نشك في كل معلومة نسمعها، ونشك في التقارير الإعلامية المتضاربة، ولكن الواقع هو مؤلم جدا، والوضع لا يطاق، فتعطينا بعض الإحصائيات من منظمة الصحة العالمية أن واحداً من ثلاثة أطفال يموتون من الجوع، وقد عانى الأطفال والمرضعات من سوء التغذية، وتعطينا تقارير الأمم المتحدة أن 70 % من البيوت قد تدمرت من القصف، ولم تعد صالحة بعد للسكن، وإن سكتت أفواه البنادق فأين سيسكن أكثر من مليون نسمة، وتحزننا الأعداد الضخمة من القتلى، ومن المصابين التي لا نعرف حده إصابتهم… فنحن لسنا أرقاما؛ إنما بشر خلقنا الله على صورته ، وفدانا المسيح بصلبه وأعاد لنا إنسانيتنا بقيامته، ونتساءل بشك كما تساءل التلميذ توما ما هدف هذه الحرب المستعرة الضروس؟ وما هدف هذه المجازر والابادة الجماعية؟ وأصبحنا نشك في تصريحات كل سياسي، وكأنّها ضرب من الكلام، او وعود فارغة أمام كل هذه التضحيات. وعبر عنها بألم أحد الشباب الفلسطينيين المسيحيين الذي يختبأ في إحدى الكنيستين في غزة متسائلاً: نستغرب بصمت العالم، ولكننا نستعين برحمة الله وحدها.
وبعد أسبوع اجتمع التلاميذ مرة أخرى، وكان التلميذ توما معهم هذه المرة، فظهر القائم من الأموات مرة أخرى، ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنً ف أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: «رَبِّي وَإِلهِي!» (انجيل يوحنا 20 :28).
إن حادثة توما تؤكد لنا اليوم وسط الألم والشك والحزن، ووسط الأوضاع التي لا تطاق ولا يصدقها العقل من هول ما فيها من جوع ودمار ومجازر وألم وموت أن ثمة إله حي .ولن يتركنا حتى في ضيقنا، وإننا نتمسك فقط في هذه المرحلة الدقيقة بهذا الإله الحي؛ لأنه إن وعد صدق، وإن تكلم فعل، وإن وعد حقق وعده؛ لأن القيامة علمتنا أن هذا الإله الحي يسمع أنات كل مظلوم وتضرعات كل مؤمن، وتؤكد لنا القيامة من جديد في هذا العالم بأن العالم مهما طغى وبغى ومهما كانت تحالفات الدول وقرارات الساسة وأصحاب النفوذ إنما الله الحي الذي هو القوي، ولن يسمح لظلم الإنسان أن يستمر، وطالما ثمة إله حي فهناك أيضا رجاء حي بأن السلام المبني على العدالة سيتحقق؛ فهذه هي إرادة الله لبلادنا الحبيبة؛ ولذلك أنحني في عيد القيامة هذا أمام المسيح القائم من بين الأموات، وأقول له كما قال توما: “ربي وإلهي” فنحن نرفع بلادنا وشعبنا إليك أيها المخلص .
وكما احتفلنا ككنائس مسيحية تسير على التقويم الغربي بفترة الصوم الأربعيني، واحتفلنا في الأسبوع المنصرم بأسبوع الآلام، ونحتفل اليوم بعيد القيامة المجيدة، يحتفل أبناء وطننا المسلمين بشهر رمضان الفضيل.
فهاتان مناسبتان تدعوانا لأن نتكاتف ونتضامن ونرفع أيدينا عاليا، ونطلق صرخة لكلّ صاحب ضمير حي في فترة الأعياد، ونرفع أيدينا بالدعاء إلى الله الحي الذي يصغي لكل من دعاه وحمده.
فلنكثف أدعيتنا لتقف هذه الحرب المدمرة حالا، ولتدخل المساعدات الإنسانية المطلوبة لإسعاف أهل غزة، ولنصلِّ من أجل الإفراج عن أسرى الحرب، ولنكثف صلواتنا حتى يلهم الله قادتنا وقادة العالم ليحققوا إرادة الله لأرض القيامة، ويحققوا جاهدين الحل النهائي والعادل والشامل لقضيتنا الفلسطينية العادلة؛ لأن بلادنا بحاجة إلى العدالة.
وبتحية القيامة أحييكم من قدس القيامة:
المسيح قام … حقا قام
وكل عام وأنتم وعائلاتكم بألف خير وتحقق السلام العادل في بلادنا.
Comments are closed.