رسالة الميلاد لغبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي
نورسات الاردن
“عيد الميلاد هو عيد نور المسيح الذي يشرق في ظلمات الحياة، لكي يبدّدها. فلنسرع إليه بإيمان رعاة بيت لحم وبساطتهم، لنستنير بشخصه وكلامه وآياته” هذا ما كتبه البطريرك الماروني في رسالته بمناسبة عيد الميلاد ٢٠٢١
تحت عنوان “سيروا بنا إلى بيت لحم، لنرى هذه الكلمة” صدرت صباح الجمعة رسالة الميلاد لغبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي كتب فيها عندما وقف ملاك الربّ برعاة بيت لحم في قلب الليل، وأشرق عليهم مجد الربّ، ويشرّهم الملاك بولادة مخلّص العالم، وهو المسيح الربّ، وأعطاهم العلامة، كلّموا بعضهم بعضًا وقالوا: “سيروا بنا إلى بيت لحم، لنرى هذه الكلمة … وجاؤوا مسرعين”. عيد الميلاد دعوة لنا ولكلّ إنسان وشعب، للإسراع إلى ملاقاة المسيح، من خلال رموز المغارة والشجرة، وفعليًّا بواسطة أسرار الخلاص. إنّه نورنا في ظلمة ليلنا الكثيفة، التي تكتنفنا، وكأنّها من دون فجر يعقبها.
يطيب لنا أن نلتقي ككلّ سنة للصلاة وتبادل التهاني القلبيّة بالميلاد المجيد، بمبادرة من مكتبي الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات، ومشاركة السادة المطارنة، وكهنة ورهبان وراهبات، وإنّي أوجّه كلمة شكر لقدس الأب مارون مبارك، الرئيس العامّ لجمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، على الكلمة اللطيفة التي ألقاها باسم المكتبين والحضور، وعلى التهاني والتمنيات التي أعرب عنها باسمهم جميعًا. ويسعدني أن أبادلكم إيّاها مع إخواني السادة المطارنة والأسرة البطريركيّة. ومعكم نقدّمها لأساقفتنا وكهنتنا ورهباننا وراهباتنا وسائر أبناء كنائسنا في النطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار.
عيد الميلاد هو عيد نور المسيح الذي يشرق في ظلمات الحياة، لكي يبدّدها. فلنسرع إليه بإيمان رعاة بيت لحم وبساطتهم، لنستنير بشخصه وكلامه وآياته. يسوع هو الفجر بعد ليلنا الطويل. نحن لا نريد بسبب الخطايا وعدم الاكتراث ورتابة الحياة والعادات التي تأسر، أن يكون أحد من عداد الذين قال عنهم الربّ: “جاء النور إلى العالم، والناس أحبّوا الظلمة على النور، لأنّ أعمالهم كانت شريرة”. الشرّ يجعل النفس في الظلمة ويمنعها من رؤية النور، فيما “نور الحقّ، يسوع المسيح، ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم”. فلنفتح له عيون عقولنا وإراداتنا وقلوبنا، لكي نرى الحقيقة، ونجسّدها بالأعمال الصالحة، ونعيشها محبّة. عيد الميلاد هو عيد نشأتنا المسيحيّة، على ما يقول القدّيس البابا لاون الكبير: “ولادة المسيح هي في الحقيقة منشأ الشعب المسيحيّ. فتذكار ميلاد الرأس هو أيضًا تذكار ميلاد الجسد، كلّ عضو بدوره، عند خروجه من حوض المعموديّة. بهذا الميلاد الثاني، يصبح المعمَّد والمعمدّة إنسانًا جديدًا، ومن نسل المخلّص الذي صار إبن البشر، وهكذا نستطيع أن نصير نحن أبناء الله.”
العالم بحاجة إلى نور المسيح، نور الحقّ، لكي يهتدي إلى المخرج من ظلماته. ليس ميلادُ يسوع عيدًا محصورًا بالمسيحيّين، بل يَشمُلَ كلَّ إنسانٍ يتوقُ إلى زمنٍ جديدٍ وعهدٍ جديدٍ يَنقلُه من واقعٍ بالٍ ومؤقت إلى رحاب الفرحِ والنجاحِ والإنقاذِ والديمومة. إنَّ اللبنانيّين، بما يُعانون وبما ارتكبوا من خطايا وطنيّة في حقِّ بعضِهم البعض وفي حقِّ وطنهم، معنيّون بهذا الحدث الإلهي والإنساني في آنٍ معًا. أولم تكن ولادةُ دولةِ لبنان، في الأساس، عهدًا جديدًا في هذا الشرق، بفضل ما لها من ميزات وخصوصيّات؟ إن ولادةَ لبنان هي الاستثناءُ الذي كان يَجدُر باللبنانيّين أن يَقترحوه قاعدةً لشعوبِ الشرق الأوسط. لكنّنا لم نعرف قيمةَ هذا الوطنِ النعمة، فشكّكنا به وتَعالَيْنا على النعمة.
لسنا الشعبَ الوحيدَ الذي اختلف على ماضيه. كلُّ الشعوبِ اختلَفت وتقاتلت. أين حروبُنا من حروبِ أوروبا وأميركا وآسيا؟ وسواها لكنَّ تلك الشعوبَ قَـبِلت تاريخَها المختلِف وتَصالَحت وتَعلَّمت من تجاربِها وانطلقَت نحو مستقبلٍ مُشرِق. أما نحن، فلا نزالُ نَجتَـرُّ خلافاتِنا، ونسير إلى الوراء، ونهدم ما بناه رجال الدولة عندنا. متى نستعيد الضميرَ الوطنيَّ وتَستذكرَ مجدَ دولةِ لبنان وعظمةَ هذا الشعبِ المؤثِّرِ في الحضارةِ العالميّة، علّنا نَنجحُ في وقفِ المسارِ الانحداريِّ لوجودِنا؟ فإذا كانت الشعوبُ العربيّةُ تَـمنَّت في مرحلةٍ معيّنةٍ تَغييرَ أنظمتِها، فنحن نطالب باستعادةِ نظامِنا الديمقراطي لأنّنا نعيش منذ سنواتٍ في حالةِ “اللانظام”، وباستردادِ دولتِنا لأننا نعيش خارجَ سقفِها، وهي تعيشُ خارجَ شرعيّتِها ودستورها وميثاقها، وتخضع لفرض إرادة أحَديّة عمدًا على المؤسّسات الدستوريّة حتى تكبيلها وتعطيلها.
لو كانت المحبّةُ موجودةً في حياتِنا الوطنيّة وفي قلب المسؤولين لما بلغنا ما بلغناه، ولما كان الشعبُ يَرزحُ تحت أكبرِ مأساةٍ في تاريخِه. حبّذا لو يسيرُ المسؤولون بين الناس، ويَطوفون في الشوارع، ويَزورون أحياء المدن والقرى، ويَدخُلون إلى البيوت، ويتكلّمون مع الآباء والأمّهاتِ، ويَستمعون إلى أنينِ الموجوعين، وصراخِ الأطفال، وألآم المرضى، ويَستطلعون عددَ الّذين ينامون من دونِ طعام، وعددِ الّذين يَفتقرون إلى القِرش، وعددِ الّذين لا مأوى لهم، وعددَ الفتياتِ والفتيان الذين لم يُسَجلّوا في المدارس والمعاهد. ولو أنّهم نظروا إلى ما عليهم من مستحقّات تجاه المستشفيات، والمدارس المجّانيّة، والمياتم، والمؤسّسات الإنسانيّة لذوي الحاجات الخاصّة، والمحاكم الروحيّة المسيحيّة منذ سنتيتن وثلاث وأربع، لخجلوا من نفوسهم، واستقالوا من مناصبهم. ولكن رغم كلّ ذلك نرى أهل السلطة غارقين في صراعاتهم ويبحثون عن حيلٍ وتسويات ومساومات للانتقامِ من بعضهم البعض ولإبعاد أخصامهم وتعيين محاسيبهم، والتشاطر في كيفيّة تأجيل الإنتخابات النيابيّة والرئاسيّة عن موعدها الدستوري، لغايات في نفوسهم ضدّ مصلحة لبنان وشعبه.
لكنّ شعبنا المقهور يتطّلع إلينا، ويضع آماله فينا وبحقّ، لنساعده ونكون بقربه ونعضده في حاجاته، ونشدّده. فإنّنا وكما نحن فاعلون بتعاوننا وتنسيق خدمتنا في الأبرشيّات والرعايا والرهبانيّات والأديار، ومؤسّساتنا التربويّة والإستشفائيّة، ومع رابطة كاريتاس، جهاز الكنيسة الرسميّ الراعويّ الإجتماعيّ، ومثيلاتها من المؤسّسات الإجتماعيّة الخيريّة والإنسانيّة ومع المحسنين الأسخياء، نستطيع أن نؤمّن حاجات شعبنا بكرامة، بانتظار عبور ظلمة الجوع والبطالة والغلاء واستهتار المسؤولين في الدولة بشعبها. فلا نخافنّ لأنّ العطاء بقلب محبّ تقابله جودة الله السخيّة. وهذا اختيار نعيشه كلّ يوم.
مرّة أخرى نكرّر أنّ باب الإنقاذ والخلاص الوحيد هو إعلان حياد لبنان الإيجابيّ الناشط، تنفيذًا للميثاق الوطنيّ الرافض تحويل لبنان مقرًّا أو ممرًّا لأيّ وجود أجنبيّ، وحمايةً للشراكة والوحدة وإفساحًا في المجال لحسن تحقيق دور لبنان. عندما نقول لا تستقيمُ الشراكةُ والوِحدةُ من دون حيادِ لبنان، لا يَعني أننا نحن مَن يَشترط ذلك، بل هي طبيعةُ لبنان الجيوسياسيّة التي تحتِّمُ التزامَ الحيادِ من أجلِ الشراكة والوِحدةِ. لبنانُ من دون حيادٍ يقف دومًا على شفيرِ الأزَماتِ والانقساماتِ والحروب، بينما لبنان الحيادِ يعيش في رحابِ الوِحدةِ والسلامِ والاستقرار والإزدهار والتموّ. ونوضح أنّ لبنان لا يستطيع أن يكون حياديًّا إزاء ثلاثة: إزاء إجماع العرب إذا حصل، وإزاء إسرائيل، وإزاء الحقّ والباطل. في إجتماع الإثنين الماضي سلّمت أمينَ عامِّ الأممِ المتّحدةِ السيّد أنطونيو Guterres مذكّرةً احتوت مواقفنا المعهودةَ من الحيادِ والمؤتمرِ الدولي الخاصِّ بلبنان ووجوبِ تنفيذِ جميعِ القرارات الدُوليّةِ دون استنسابية وتجزئة، لاسيّما وأن دولةَ لبنان وافقت عليها تباعًا. وأكدنا للأمينِ العام ضرورة أن تَتحرّك الأممُ المتّحدةُ قبل سواها لبلورةِ حلٍّ دوليٍّ يَعكِسُ إرادةَ اللبنانيّين.
رأى الرعاة العلامة، وآمنوا بالمخلّص في الطفل الملفوف بالقماطات الموضوع في المذود. وعادوا يهلّلون ويسبّحون”. إنّها ليتورجيّتهم، ليتورجيا التسبيح لله تواصل ليتورجيا السماء التي أنشدها الملائكة عند ميلاد المخلّص الإلهيّ وإعلان بشرى الفرح العظيم. وعلى طريقة السخاء المشرقيّ تصوّر القدّيس أفرام السريانيّ بنفحته الشعريّة هدايا هؤلاء الرعاة البسطاء: “أتى الرعاة حاماين خيرات الغنم:حليبًا لذيذًا واحمًا نقيًّا وتسبيحًا بهيًّا. خصّصوا فقدّموا: ليوسف لحمًا، لمريمَ حليبًا، وللابنِ تسبيحًا” وبطريقة رمزيّة تصوّرهم يسجدون لراعي الرعاة معترفين برئاسته المطلقة: “تقدّم الرعاة وسجدوا له بعصيّهم. سلّموا عليه وهم يتنبأون: سلامٌ سلامٌ يا عظيم الرعاة. عصا موسى تشكر عصاك يا راعي الكلّ!” ثمّ تبعهم علماء الفلك، يقودهم النجم من بلاد فارس إلى بيت لحم، حاملين هم أيضًا هداياهم النبويّة: ذهبًا للملك، وبخورًا للإله، ومرًّا للفادي. ونحن المؤتمنين على نقل بشرى الميلاد بالكرازة وأعمال المحبّة فلنحمل إليه هدايا إيماننا ورجائنا وحبّنا وقربنا من شعبنا، لكي يفرح بالعيد وبالمسيح عمّانوئيل المولود ليكون رفيق الدرب لكلّ إنسان. ولد المسيح، هللويا!
Comments are closed.