أحد الموتى بقلم الخوري شوقي كرم


“فبيننا وبينكم هُوّة عميقةٌ لا يقدرُ أحدٌ أن يجتازها من عندنا إليكم ولا من عندكم إلينا”
الإنجيل الذي سمعناه ليس بقصّة حقيقيّة بل هو مثل أراد يسوع به أن يكشفَ لنا الطريقَ الذي يُبعدَ عنّا الدينونةَ ويؤهِّلنَا لملكوتِ السماوات. فغنيُّ المَثل هو رمزٌ إلى كلّ إنسانٍ يستثمرُ ما أُعطيَ من خيراتٍ روحيّةٍ وماديّةٍ لإشباع ميولِه ورغباتِه وملّذاته الدنيويّة، متناسيًا قريبَه المحتاجَ المُلقى على طريقه، ومتناسيًّا يوم الدينونة الأخير. لَعَازَرُ، ومعنى اسمه “الله يَعين”، هو رمزٌ إلى كلّ إنسان يعيش في حاجةٍ دائمةٍ إلى لله وإخوتِه البشر. ويعيشُ دنياه وقلبَه وعيناه معلّقة بما ينتظره في الحياة الثانية. أمّا الكلاب فهي رمزٌ، بحسب نظرة اليهود، إلى الوثنيين الذين هم من خارج الدار. والدَور الذي لعبته الكلاب تجاه لَعَازَر (تلحس قروحه)، يدلُّ على الرحمة التي يظهرها هؤلاء الوثنيون تُجاه المحتاج أكثر من اليهود المُتدينين (مثل السامري الصالح).
ولأن كلمة الله الّتي نسمعها ونفهمها هي التي سَتدُيننا يوم نقف أمامه في آخر الحياة – والغنيّ فهم هذه الحقيقة متأخرًا فتمنّى على إبراهيم أن يرسل أحدًا يُنذر إخوته بهذه الكلمة قبل فوات الأوان- فلا بدّ لنا أن نسألَ ذواتِنا في ضوء هذا المثل بمن نشبّه أنفسنا؟ فئات ثلاثة قد لا يخطر في بالنا أننا نشبه واحدةً منها، أو لنبرّر أنفسنا نقول: نحن نشبه الثلاثة جميعًا. مرّة نكون كالغنيّ، ومرّة كالفقير، ومرّة كالوثنيّ، وصدقًا هذا كلامٌ لا ينفع.
فالمسيح الذي يُحبّنا نحن الخطأة ويريد خلاصَنا يعرف ما نحن عليه، ويُريدنا اليومَ أن نأخذ موقفًا صريحًا وواضحًا وجازمًا منه هو الإله الكلمة الحقّ. فإن كنّا كالغنيّ نعيش لا نفكّر إلّا في همومِ هذه الدنيا، أي في ما علينا أن نعمل لنأكلَ ونشربَ ونلبسَ ونؤمِّنَ حاجاتنا وحاجات أولادنا الماديّة، فنحن أتعسُ الناس لأن مكانَ العذاب الذي ذهب إليه الغني سيكون مَصيرُنا. أمّا إذا كنّا نعيش كالفقير، نقومُ بكلّ هذه الأعمال، دون أن ننسى العمل للاغتناء من الله ومشاركة المحتاج من حاجاتنا، فنحن أسعدَ الناس، لأننا سنكون إلى جانب إبراهيم أبي المؤمنين في وليمة الملكوت السماويّ. وإذا كنا كالسامريّ الصالح ننحني على كلّ منازع نلتقيه في طريقنا، نبلسم جراحه الروحيّة والإنسانيّة ونعمل على شفائها، فسنكونُ أيقونةً حيّة للمسيح، الّذي هو السامريّ الصالح، وسننعم برؤياه في الأبديّة.
في الماضي البعيد، كان المربّون يُكثرون من الكلام على جَهنّم، وتصوير العذاب فيها ليزرعوا الخوف في النفوس من الخطيئة والشرّ. وكان الناس يعبدون الله خوفًا من جهنّم. أمّا اليوم فيركّز المربّون على محبّة الله ورحمته لكي تكون عبادتنا له بالروح والحقّ لا بالخوف. ولكن، أن نذهب في هذه التربية إلى حدّ نقول فيه لا يمكن الله المحبّة أن يَهلك أحد، وننكر بهذا وجودَ جَهنّم، فهذا يناقض روح الإنجيل ومحبّة الله التي لا تفرح بالظلم بل بالحقّ والعدل. فالمسيح واضحٌ في مثل اليوم: “فبيننا وبينكم هُوّة عميقةٌ لا يقدر أحدٌ أن يجتازها من عندنا إليكم ولا من عندكم إلينا”.
فجَهنّمُ حقيقةُ موجودة، وهي حالة الذين يعيشون متنكّرين لمحبّة الله ومحبّة القريب، يفكرّون ويُحبّون ذواتهم مثل الغنيّ، فإذا ما مثلوا أمام الله فلا يمكنه أن يعيدهم إلى العدم، بل يكّرس خيارهم، خيار اللّاحبّ، وبالتالي يبقوُنَ في انفصالٍ دائمٍ عنه. وليس من ظلمة وعذاب أقسى من هذا الانفصال كما حاول يسوع أن يصوّره في هذا المثل بأمنية الغنيّ أن يبلَّ لسانه ولو بنقطة ماء. والسماءُ حقيقةٌ موجودة، وهي حالة الذي يعيشون كلَعَازَر متّكلين على معونة الله، مُحبّين له ولأخوته، عاملين على خدمته، وتملكيه كلّ شيء فيهم، ومشاركين إخوته في كلّ ما لديهم.
يا ربّ! كلمتك اليوم تُنيرَنا لنختارَ الحياة الأبديّةَ على الموتِ الحقيقيّ. فيا رب أعطنا أن نختارَ طريق لَعَازَر والسامري الصالح لننعمَ مع إبراهيم بملء الحبّ.

أحد تَذكار الموتى الخوري شوقي كرم
1 تسا 5 :1-11 ؛ لو 16 :19-20
“أمّا الأزمنة والأوقات، يا إخوتي، فلا حاجة إلى الكتابة فيها إليكم. لأنكم تعلمون حقّا أن يوم ربّنا يأتي كالسّارق ليلاً”
إخوتي وأخواتي الأحبَّاء بالرّب يسوع!
أمران يوحّدان ويساويان بين الناس: يومُ الولادة ويوم الموت.
في يومِ الولادة نأتي الحياةَ عراةً إلّا من عطيّة الحياة التي وهبنا إياها الله لنستثمرها بطريقة نُقرّر بها ونُحقّق أبديتنا هنا على الأرض بكلّ عمل وموقف نأخذهما من الله والقريب كما هي الحال في مثل الغني ولَعَازَر.
في يوم الموت الذي لا يّميّز غنيًّا منن فقير، وكبيرًا من صغير، نقف كلّنا أمام الرّب الديان لنؤدي نفس الحساب عن الحبّ الّذي جسّدناه بكلّ عمل محبّة قمنا به لقريبنا، وبكلّ موقف حبّ أظهرناه تُجاهه، هو الذي وضعه الله في طريقنا ليكون سببَ خلاصٍ لنا.
لكن الغريب هو ما يحدث بين الولادة والموت: ننسى مَنْ نحن؛ ننسى أننا مخلوقات ولسنا آلهة، وبالتالي نستطيع أن ننسى من أعطانا الحياة لساعات، ولأيامٍ وأسابيعَ وشهور وحتى سنين، ونعيش لا نفكر بالموت إلّا كحقيقة بعيدة. والنتيجة ننسى أننا كلّنا أبناءُ الله، أبناءُ عائلة واحدة متساوين في ما بيننا، مرتبطين بشركة محبّة بحكُم عضويّتنا في جسد المسيح السريّ، بالكنيسة، ومُلزمين بمساندة بَعضنا لِبعض. ننسى هذه الحقيقة ونأخذُ في بناءِ هوّةٍ تلو هوّة بيننا، نبنيها بحبّ المال والسلطة واللذة، نبنيها بالكبرياء والاستغلال، نبنيها بالحقد وسوء النيّة والحُكم المُسبق والرغبة في الانتقام والنميمة، نبنيها بالأنانيّة والبخل، حتى نصل في نهاية المطاف إلى قمّة ما صنعنا بأنفسنا، وما صنعته أيدينا: هوّةٌ عظيمةٌ بيننا وبين الآخرين لا تستطيعُ حتّى رحمةَ الله أن تغيّر شيئًا من معالمها بعد الممات. أجاب إبراهيم الغنيّ قائلًا: “بيننا وبينكم هوّةً عظيمةً، حتى إن الذين يُريدون العبور من هنا إليكم لا يستطيعون. ولا الذين هناك يستطيعون إلينا عبوراً”.
أمرٌ واحدٌ يمكننا أن نقوم به ويقلب كلّ المقاييس في طريقة عيشنا لعلاقتنا بالله والقريب؛ أمرٌ واحدٌ يمنعنا من بناء الحواجز والهوة بيننا وبين القريب، أن نأخذ بِجِديّة ما قاله يسوع لنا وردّده بولس: “اسهروا لأنّكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يعود فيها ربّ البيت”. “أمّا الأزمنة والأوقات، يا إخوتي، فلا حاجة إلى الكتابة فيها إليكم. لأنكم تعلمون حقّا أن يوم ربّنا يأتي كالسّارق ليلاً”.
فلو قلنا لذواتنا مع إشراقة كلّ صبح، كما نصح القديس أنطونيوس الكبير تلاميذه الراغبين في ميراث الحياة الأبديّة بأقصر الطرق، “هذا آخر يومٍ في حياتي”. فهل يَعقِل ونحن نعرف أن الحبّ هو الطريق الوحيد للأبديّة، حبّ الله والقريب، أن نترك نفوسنا مُستعبدةً لنزعة التسلّط وحبّ الغنى والجاه، وخدعة المظاهر؟ هل يَعقل ونحن نعرف أن الآخر الّذي نلتقيِه هو عطيّة من الله لخلاصنا، أن نترك المصلحة الشخصيّة والأنانيّة والرغبّة بالتملّك والانتقام تعشّش في قلوبنا لأجل تمسّكنا بمترٍ من أرض وبحجارة يحتاجها قريبنا، أو لمغفرة ورحمة قادرين أن نمنحهما لمن أساءَ إلينا؟
ولو قلنا عند كلّ مساء في حياتنا، ربّما لن نستيقظ غدًا من نومنا، فهل يَعقلْ ونحن نعرف أن الحبّ وحده أقوى من الموت، أن ترتاح رؤوسنا على الوسادة وقلوبنا يعمرُ بالحقد والغضب بدل المغفرة والصبر، وبقصدِ الأذيّة والشرّ بدل الرغبة بفعل الخير وخلاص الآخر؟
يا رّب! أعطنا أن نعيش في دنيانا كبدو رُحّل في حجّ مستمر إليك، أن نعيش في العالم حقيقة ما نحن عليه أننا لسنا من هذا العالم ولا لهذا العالم، كما قال لنا يسوع، وأن نستثمر كلّ لحظة من لحظات حياتنا بالحبّ، لأن الحبَّ وحده أقوى من الموت. آمين.